أقلام حرة

فيصل محمد الأنصاري يكتب: تأثير الحروب الصليبية الفرنجية

لست اليوم في صدد تقديم شرح تاريخي لفترة الحملات الصليبية (الفرنجية)، إنما أريد أن أبين كيف أثرت هذه الحملات على العالم الشرقي والإسلامي. لأن الغرب المسيحي واعٍ بتأثير الحملات الصليبية (الفرنجية)، على أرضه وتاريخه وثقافته ودينه، وحتى على طريقة تفكيره حول الدين.

ونجد ذلك واضحًا في عدد المقالات والأبحاث التي تُنشر في الجامعات الأمريكية والأوروبية عن هذا الموضوع،

أما المشرق الإسلامي يجهل حقيقة تأثير هذه الحروب على الإنسان العربي المسلم حيث ان هذه الحروب أثرت على ثقافتنا وأدبنا ونحن في غفلة لا نشعر

وبداية هذه الغفلة تبدأ من أصل تسميتنا للحروب الصليبية (الفرنجية)، فلم يكن المؤرخون المسلمون الأوائل يسمون هذه الفترة أو هذه الحملات بالحروب الصليبية (الفرنجية)، وكانوا يرون أنها لم تقم في الأساس باسم الصليب، وأنها ليست حملة دينية في الأصل، بل كانوا يرونها فكرة استعمارية عسكرية همجية.

عندما نقرأ كتابات ابن القلانسي، وابن الأثير، وابن العديم، وابن واصل، وابن شداد، والعماد الأصفهاني، والمقريزي، والقلقشندي، وابن تغري بردي، وبدر الدين العيني… وغيرهم من أوائل من عاصر تلك الأحداث، لا نجد في كتاباتهم ذكر كلمة «الصليبيين» أو «الحملة الصليبية»، بل كانوا يذكرونها بالحملة الفرنجية أو الفرنجة.

لذلك، إذا أقررنا أن الحملات الصليبية في الأصل لم تكن باسم الرب والصليب والمسيح، فإن التوصيف الأول هو الأصح، لكن القوة العسكرية والتأثير الفرنجي المسيحي على الساحل الشامي بعد احتلاله قد أثرَ على كتابات العرب المسلمين، فصاروا يكتبون عن تلك الحقبة باسم «الحملة الصليبية» أو «الصليبيين»، وهذا التأثير المسيحي على الكتابة العربية ما زال حتى اليوم، إذ أننا صرنا نصف ما فعلوه بوصفهم هم، حتى إن كان هذا الوصف مجانبًا للحقيقة والصواب، وأنا لا أدعو إلى نوع من الخصام الفكري مع الغرب، لكنني أردت أن أنبه إلى أننا ما زلنا نستهلك نتاج الفكر الغربي المسيحي.

والتسمية مهمة لأنها تصف لنا حال الناس في ذلك الوقت، فلم يكن كل المسيحيين مشاركين في تلك الحملات، بل إن المسيحيين الأرثوذكس الشرقيين لم يشاركوا في هذه الحملات، وإن الحملةَ الفرنجيةَ الرابعة نكلت بهم في البلقان ودمرت وأحرقت بيوتهم ومدنهم، وانتهت باحتلالهم القسطنطينية، عاصمة الأرثوذكس الشرقيين، وقام الفرنجة المحتلون المدافعون عن الصليب والمسيح بإحراق كاتدرائية آيا صوفيا، وهذا أكبر مثال على همجية هذه الحملات وأنها ليست مسيحية صليبية في الأصل، فكيف لنا نحن المسلمون أن نسميها بغير حقيقتها وواقعها؟!

الهمجية الفرنجية المسيحية الكاثوليكية على البلقان والأراضي البيزنطية الأرثوذكسية جعلت ساكني تلك الأراضي يئنون من وطأة الفرنجة لنصف قرن من الزمان، خلفت هذه الأحقاد فيما بعد أفكار الحركة الشيوعية الاشتراكية، حيث وصف كبار هذه الحركة مثل ماركس وإنجلز وفلاديمير لينين أن الحملات الصليبية (الفرنجية)، كانت مشروعات استعمارية استيطانية إقطاعية تهدف إلى إبعاد شعوب تلك المناطق عن أراضيهم تحت اسم الصليب.

وجوهر الفكر الشيوعي الاشتراكي قائم على إنهاء الحركة الإقطاعية نتيجة للترسبات التي تركتها الحملات الفرنجية، التي كانت قائمة في الأصل على الفكرة الإقطاعية، وهي انتشال الفقراء في أوروبا وجعلهم أصحاب أرض في الشرق، وهذه الأفكار الشيوعية انتشرت في العالم كله وشملت العالم العربي لفترة من الزمن.

ولقد كان للحملات الفرنجية تأثيرها حتى على سياسات الخلافة العثمانية، حيث انتهجت الدولة العثمانية نهج التوغل في أوروبا، بعكس جميع الدول الإسلامية التي سبقتها، وذلك لأن العثمانيين أرادوا نقل الآلية من الدفاع إلى الهجوم، فقد أرادوا أن ينشغل الأوروبيون في ديارهم بحيث لا يجدون فرصة لجمع شتاتهم والتوجه إلى الشرق، ونرى ذلك في الفرقة الانكشارية العثمانية، التي كانت تتكون من أبناء الأوروبيين الواقعين في الأسر بعد انتهاء المعارك، فكانت الدولة العثمانية تربيهم على القيم الإسلامية الجهادية و العسكرية وترسلهم مرة أخرى إلى أوروبا مقاتلين فاتحين، وقد تحقق ما أرادته الدولة العثمانية، حيث نرى تاريخيًا أن العالم المسيحي انشغل بالعثمانيين مدة من الزمن ولم يستطع استكمال حملاته على الشرق، بل كان يحمل هم التوسع العثماني في أوروبا.

وعلى ذكر الخلافة الإسلامية فإن الحملات الفرنجية والمعادلات التي تلتها كشفت للناس ضعف سياسة الخلافة العباسية والخلافة الفاطمية، وزادت من حنق الناس عليهما بعد سفارة أبي سعد الهروي وجمع من العلماء إلى الخليفة في بغداد، حيث انتهت سفارتهم بالفشل لأن الخليفة رفض خوفًا ورهبًا أن يحارب الفرنجة ويسترد بيت المقدس منهم، هذا الأمر جعل الناس يميلون إلى الملوك القادة أمثال عماد الدين، ونور الدين زنكي، وصلاح الدين الأيوبي، وجعل من الخلافة خلافة صورية، يُدعى لها في منابر الجمعة دون أيةِ شرعية دينية أو سياسية أو عسكرية.

وهكذا تطورت الأحداث التاريخية ليصبح قائد الأمة والمدافع عنها ملكًا صاحب أرض يقود الجيوش بنفسه ويقاتل من على ظهر جواده كما العامة من الناس، وهذا الأمر جعل الناس يميلون إلى الكيانات العسكرية بدلاً من نموذج الخلافة الذي صار الخليفة فيه اسمًا بلا معنى.

ولقد نجحت الحملة الأولى الفرنجية في توحيد الأقطاب في المنطقة التي كانت متشرذمةً ومتمزقة، والتي كانت نهبًا للنزاع بين العباسيين والفاطميين، وبين السلاجقة والعرب، وبين زعماء البدو وأمراء العرب في المناطق الحضرية، ومن هذا النحو، كانت الحملات الفرنجية لصالح المسلمين بحيث توحدت كل جهودهم في طرد الفرنجة المحتلين، لكن لم تكن هذه الحملات في صالحهم من الناحية الثقافية والاقتصادية إذ أن الجهود كلها صُبّت على الجانب العسكري، وخسر المسلمون سنوات من عمرهم الثقافي والعلمي في محاولاتهم لطرد الفرنجة المحتلين.

أقول إن الحملة الأولى واحتلال القدس كانتا بمثابة جرس إنذار للمسلمين، وتحديدًا لمنطقة الشام ومصر اللتين كانتا في نزاع دائم. وفهمَ المسلمون أنهم بحاجة إلى قيادة جديدة تستقطب وتقبل كل الطوائف والأعراق، وهذا القائد كان صلاح الدين الأيوبي الذي استطاع أن يوحد القطب الشامي والقطب المصري ويسيرَ بهما لتحرير القدس وإعادته إلى كنف الدولة الإسلامية.

وأقول أيضًا إن تنكيل الفرنجة المسيحيين الكاثوليك بأهل الأرض من المسيحيين الأرثوذكس تسبب في استحكام عداوة بين هذين المذهبين، وهذا الخلاف سهلَ فيما بعد على العثمانيين تحييد الدولة البيزنطية عن المشهد المسيحي، ما أدى بدوره إلى فتح القسطنطينية وسهّل القضاء على الإمبراطورية البيزنطية بعد أكثر من ألف سنة من نفوذها وسلطانها.

بعد فشل الأوروبيين في الوصول إلى أهدافهم تحت اسم الصليب والمسيح، توقفوا عن حملاتهم الصليبية (الفرنجية)، لكن رغبتهم في احتلال الشرق لم تتوقف ونرى ذلك جليًا في حركات قوى الاستعمار وحملةِ نابليون بونابرت على مصر والساحل الشامي

ورغم مرور الزمن، فإن الأطماع المسيحية في السيطرة على الشرق لا تزال مستمرة، سواء تحت راية الصليب أو بدعوى التحرر والتقدم.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى