كيف تتحكم براءات الاختراع في أسعار الدعامات الطبية في مصر؟

محمود الشاذلي
هل تساءلت يومًا لماذا يصل سعر بعض الدعامات الطبية إلى 9000 دولار،
بينما تكلفتها الفعلية لا تتجاوز 100 دولار في الصين أو 150 يورو في أوروبا؟ الفارق الشاسع هذا ليس بسبب ندرة المواد أو تعقيد التكنولوجيا،
بل يعود إلى “عقود الاحتكار” التي تُعرف باسم براءات الاختراع (Patents).
هذه العقود تمنح الشركات المالكة لحقوق التصميم سيطرة مطلقة على السوق، مما يسمح لها بتحديد الأسعار كيفما تشاء.
من التصنيع إلى السوق: أين يذهب الفارق؟
عند تصنيع الدعامة، تكون المواد الخام رخيصة نسبيًا، والتكنولوجيا المستخدمة متاحة،
لكن بمجرد دخولها إلى الأسواق تحت حماية براءات الاختراع، يتغير كل شيء.
الشركات الكبرى، التي تستثمر في الأبحاث والتطوير، تفرض أسعارًا مضاعفة تصل إلى هامش ربح يتراوح بين 3000% و5000%،
وفي بعض الحالات يتضاعف أكثر مع الأجيال الأحدث من الدعامات.
لماذا لا تنافس الشركات المحلية؟
قد يبدو من المنطقي أن تحاول شركات محلية إنتاج دعامات مماثلة بأسعار أقل،
لكن ذلك مستحيل بسبب قوانين حماية الملكية الفكرية الصارمة.
اتفاقيات دولية مثل اتفاقية التريبس (TRIPS) تفرض قيودًا صارمة على تصنيع أو تقليد أي منتج طبي محمي ببراءة اختراع دون ترخيص رسمي.
وحتى إذا حاولت بعض الدول تجاوز هذه القيود، تواجه ضغوطًا اقتصادية وسياسية من دول مجموعة السبع (G7)،
التي تستخدم نفوذها لحماية مصالح شركاتها الكبرى، مما يجعل حتى القوانين المحلية مُجبرة على حماية أرباح هذه الشركات على حساب حياة المرضى.
من يُموّل براءات الاختراع؟
وراء كل براءة اختراع، هناك مستثمرون ذوو رؤية بعيدة المدى، لا يشبهون المستثمرين التقليديين الذين يهتمون فقط بالعوائد السريعة.
هؤلاء المستثمرون -الذين يمكن تشبيههم بمن هم وراء شركات عملاقة مثل Masayoshi Son- يدرسون الطب والهندسة والبيولوجيا الحيوية،
أو يموّلون الجامعات ومراكز الأبحاث من المرحلة الأولى وحتى تسجيل البراءة، وهي عملية تستغرق بين 4 إلى 7 سنوات وتكلف ما بين 3 إلى 5 ملايين دولار.
بمجرد تسجيل البراءة، تستمر حقوق الاحتكار لمدة 17 سنة، وهي فترة كافية ليحقق المستثمر أرباحًا ضخمة،
مما يبرر لماذا توجد بنوك استثمارية متخصصة في هذا المجال فقط، تعمل في سرية تامة، بلا مواقع إلكترونية أو ظهور إعلامي.
هل انتهت الفرصة أمام المستثمرين الجدد؟
في الوقت الحالي، لم يعد هناك مجال لإضافة تصميمات جديدة إلى سوق الدعامات الطبية إلا إذا جاءت بتقنية مختلفة تمامًا.
بالفعل، هناك جامعات في الشرق الأقصى تعمل على تطوير جيل جديد من الدعامات،
مع ثلاث تصميمات على وشك التسجيل، بدعم مالي ضخم من بنوك استثمارية عالمية.
المثير في الأمر أن هذه الشركات الناشئة تعمل بسرية تامة، بعيدًا عن وسائل الإعلام أو المؤتمرات،
لضمان حصولها على الحماية القانونية الكاملة وعدم تعريض نفسها لضغوط من اللاعبين الكبار في السوق.
لماذا يدفع المرضى أسعارًا خيالية؟
التكنولوجيا الجديدة ستغير السوق، لكنها لن تكسر احتكار الأسعار بالكامل.
رغم أن تكلفة تصنيع الدعامة ستنخفض إلى 50 دولارًا فقط، ستظل تُباع داخل أنظمة التأمين الصحي في بعض الدول المتقدمة بحوالي 150 دولارًا،
لكن في الأسواق الأخرى، سيظل السعر مرتفعًا، ليصل إلى 2800 دولار أو أكثر.
السؤال الأهم هنا: لماذا يستمر المرضى في دفع هذه الأسعار الباهظة؟
الإجابة ببساطة أن الأسواق الطبية ليست مثل أي سوق آخر،
حيث يتحكم فيها مزيج من الاحتكار، والتكنولوجيا، والسياسة، والتمويل الاستثماري طويل الأجل.
المستثمر المحلي vs. المستثمر العالمي
الفرق بين المستثمرين في الدول المتقدمة والمستثمرين في الدول النامية واضح تمامًا.
في حين أن المستثمر المحلي ينجذب إلى الضجيج حول الذكاء الاصطناعي (AI) وقيمة الشركات الناشئة (Valuation)،
يعمل المستثمرون في دول G7 وفق خطط طويلة الأمد، تضمن لهم السيطرة على القطاعات الحيوية لعقود قادمة.
الأمر أشبه بالمقارنة بين نادٍ صغير في الدرجة الثانية ونادٍ بحجم برشلونة FC.
لهذا السبب، كل عالم، باحث، أو مبتكر حقيقي يسعى إلى أن يكون جزءًا من هذه المنظومة العالمية،
حتى لو كان جغرافيًا في مكان آخر، فإن عقله وابتكاره ينتميان إلى حيث تحمى الأفكار وتستثمر بشكل حقيقي.
الخاتمة: من يدفع الثمن؟
في النهاية، تبقى الحقيقة القاسية: الاحتكارات الطبية واقع لن يتغير بسهولة، والأسعار ستظل مرتفعة ما لم تحدث ثورة في قوانين براءات الاختراع العالمية.
حتى ذلك الحين، سيبقى المريض هو الطرف الأضعف، يدفع ثمن التكنولوجيا،
ويدفع أيضًا ثمن قوانين السوق التي لم تصمم لصالحه، بل لصالح الشركات الكبرى ومستثمريها.