كيف ولماذا انتصرت غزة في معركة «طوفان الأقصى»؟
أحمد سعد حمد الله
السطحيون من الناس، هم الذين يقّيمون الأمور بظواهرها، لا ببواطنها وخفاياها، وأمثالهم هم من يرون أن النصر والهزيمة في الحروب، يقاس بحجم ما وقع من خسائر بشرية ومادية، من منطلق أن الفريق الذي سقط منه ضحايا أكثر،
وهُدمت له مباني أوسع، وفقد معدات حربية أكثر هو الفريق الخاسر، وخصمه هو الفائز، في حين أن التاريخ وقواعد النصر والهزيمة الربانية، تخبرنا بغير ذلك،
فرسولنا الكريم محمد صلى الله عليه وسلم، عندما عقد صلح الحديبية مع كفار قريش،
رأى الكثير من الصحابة وعلى رأسهم الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه، بأن هذا الصلح هو انهزام أمام العدو،
بل وصفه بأنه قبول للدنية في الدين، فيما كان الحاصل هو أن هذا الصلح كان فتحا مبينا للمسلمين،
بل أنزل فيه المولى عز وجل سورة كاملة بالقرآن هي سورة “الفتح” بدأت بقوله تعالى “إنا فتحنا لك فتحا مبينا”.
غزوة مؤتة
كذلك الحال في غزوة مؤتة التي قادها الصحابي العظيم خالد بن الوليد،
وهي الغزوة التي شهدت انسحاب قوات المسلمين أمام الروم، والانسحاب في العرف السائد للحروب، هو عين الهزيمة،
فيما كان هذا الانسحاب بتلك المعركة، واحدا من أكبر الانتصارات في تاريخ الحروب،
بل اعتبرت خطة الانسحاب التي قام بها بن الوليد، واحدة من أعظم الخطط العسكرية في التاريخ،
وهي خطة مازالت تٌدرس في الاكاديميات العسكرية العالمية الى الآن.
إذن فنتائج الحروب لا يجب أبدا أن نٌخضعها، لمعاييرنا الخاصة، أو قواعد المكسب والخسارة العادية، كالتي نراها في مباريات الكرة، وإنما النتائج تحددها الأهداف المتحققة منها، والنتائج المترتبة عليها.
وهذا ما يمكن القول به في معركة (طوفان الأقصى) التي اندلعت في السابع من أكتوبر 2023، واستمرت لأكثر من عام (471 يوما)،
وهي المعركة التي اعتقد كثير من الناس أن حصيلة الضحايا التي وقعت من أبناء غزة فيها، ووصلت إلى 50 ألف شهيد،
وما تهدم من أبنية سكنية ومرافق عامة، كان دليلا على هزيمة كبيرة لغزة وشعبها، في حين أن الواقع يقول غير ذلك،
بل يخبرنا بأن المكاسب المتحققة لغزة وشعبها، كانت كبيرة وعظيمة.
1- الصمود
أول وأهم تلك المكاسب تمثل في صمود قوات المقاومة بأدواتها البسيطة، وأسلحتها البدائية، أمام جيش يصفه الخبراء العسكريون بأنه الجيش الأقوى في منطقة الشرق الأوسط،
بل يملك أحدث وأقوى الأسلحة، فضلا عن الدعم الدولي والإقليمي الذي ظل يلقاه طوال فترة الحرب، فوفقا للمقاييس السطحية،
فقد كان المفترض أن يُجهز هذا الجيش على قوات المقاومة المتمثلة في حماس وغيرها، في خلال أيام قليلة،
بيد أن ما حصل هو أنه لم ينجح في ذلك بفضل صمود هذه القوات، ومن قبل ذلك صبر شعب غزة وإيمانهم بقضيتهم في تحرير فلسطين من الوجود الصهيوني،
وهي رسالة غاية في الأهمية للأجيال الحالية والقادمة، بأن قوة الجيوش ليس بعدتها وتعدادها،
وإنما بإيمانها بقضيتها الوطنية، في الدفاع عن أرضها وعرضها، وتحريرها من الاستعمار،
فضلا عن أنه يرسخ في أذهان الأجيال القادمة، أن الجهاد والدفاع عن الوطن، ليس بالضرورة أن يكون بنفس الأسلحة والأدوات التي يملكها العدو،
إنما يكفي فيه الإعداد له بما هو مستطاع، إيمانا بقول الحق سبحانه وتعالى
«وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم»
كما أنه كم يمكن مواجهة العدو والصمود أمامه والنصر عليه، بأعداد قليلة من المقاتلين وليس بنفس الأعداد التي يملكها العدو،
استنادا إلى قول الحق سبحانه وتعالى «وكم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله»
2 – تحقيق الأهداف
ولا شك أن البسطاء من الناس الذين يقيسون النصر والهزيمة في الحروب، بنفس منطق مباريات الكرة، نسوا أمرا مهما للغاية،
وهو أن النصر في الحرب محكوم بتحقيق الأهداف المطلوبة منها، فصلح الحديبية مثّل فتحا مبينا لأنه حقق هدفا كبيرا وغاليا،
وهوَ اعتراف قريش لأول مرة بدولة الإسلام الجديدة، ومن ثم راحت تعقد معها معاهدات،
وانسحاب خالد بن الوليد في مؤتة، اُعتبر نصرا لأنه حافظ على جيش المسلمين من القتل والفناء،
وَهو الجيش الذين كان تعداده 3 الأف مقاتل فقط، أمام جيش الروم الذي كان تعداده 200 ألف مقاتل.
لكن قبل أن يسأل سائل عن ماهية الأهداف التي حققتها المقاومة في غزة من الحرب، أقول علينا أن نعكس السؤال،
ونقول ما هي الأهداف التي حققها الصهاينة وحلفاؤهم منها؟ خصوصا وأن أسباب القوة وأدوات التفوق كانت بيد العدو، وليس بيد المقاومين،
ومن ثم كان العدو هو صاحب قرار وقف الحرب أو استمرارها، وفقا لتحقيق أهدافه منها،
فهل تحققت هذه الأهداف قبل الموافقة على وقف القتال؟
الإجابة بالقطع لا، فالإسرائيليون عندما بدأوا حرب الإبادة على غزة وشعبها، كانوا قد وضعوا العديد من الشروط للتراجع والتوقف عن الحرب،
وكانت أبرز الشروط هي:
•َ نزع السلاح من القطاع وتدمير الأنفاق ومخازن الأسلحة التابعة لحركة حماس.
• إجلاء أكثر من 300 ألف غزاوي، وفرض حصار على من تعتقد إسرائيل أنهم مسلحون تابعون لحركة حماس يتحصنون في هذه المنطقة،
وقطع جميع المساعدات الإنسانية الواصلة إلى الشمال، ما يجعل هؤلاء المسلحين أمام خيارين إما الاستسلام أو الموت جوعا.
•َ إخلاء شمال قطاع غزة من سكانه والإعلان عن المكان “منطقة عسكرية مغلقة”.
• إطلاق سراح جميع الأسرى والمحتجزين الإسرائيليين “دفعة واحدة”، دون قيد أو شرط.
•َ مغادرة قيادات حركة حماس لقطاع غزة، برفقة قادة آخرين إلى دولة ثالثة دون العودة إلى غزة أو أراضي الضفة الغربية المحتلة.
• هدم كل الأنفاق الموجودة في غزة وحل حركة حماس، وإخلاء قطاع غزة من الأسلحة، وأن تتولى السلطة الفلسطينية إدارة القطاع.
•َ تهجير شعب غزة إلى شبه جزيرة سيناء، أو إلى صحراء النقب كما أشار السيسي.
وهنا يمكن أن نسأل هل تحقق مطلب واحد من هذه المطالب؟ في الإجابة ستعرف أن غزة خرجت من المعركة منتصرة بفضل الله، كما عاد المسلمون منتصرون من صلح الحديبية.