محمد العنبري يكتب: حيرة وقلق في زمن الانكسار

محمد العنبري يكتب: حيرة وقلق في زمن الانكسار
محمد العنبري يكتب: حيرة وقلق في زمن الانكسار

نحن حائرون بين قيم وفضائل تعلمناها في الكتب في مراحل الدراسة وبين واقع يضج بالكذب والغش والنفاق فمنذ الصغر كنا نردد في المدارس أن الصدق منجاة وأن الأمانة من شيم العظماء وأن الإخلاص في العمل هو أساس النجاح لكننا حين كبرنا وجدنا أن الصدق كثيرًا ما يكون سببًا في الضياع وأن الأمانة قد تصبح عبئًا على صاحبها وأن الإخلاص في العمل قد لا يكون سوى طريق مختصر للخسارة والتهميش فمن ذا الذي يقف في وجه هذا التناقض بين ما تربينا عليه وما نعيشه كل يوم في مجتمع يمضي بغير هدى

الإعلام في معظم الفضائيات كاذب يكذب بوقاحة ويزوّر الحقائق ويلبسها لباسًا زائفًا ليخدم مصالح معينة وأجندات خفية فلا تكاد ترى خبرا إلا وقد تمت فبركته ولا تحليلا إلا وتحكمه أهواء مموليه ولا برنامجا إلا ويخضع لميزان المكاسب والمصالح السياسية والاقتصادية حتى الصحافة الورقية التي كانت في الماضي صوتًا للمظلومين أصبحت اليوم تسبح مع التيار وتهلل لمن يدفع أكثر فكيف لنا أن نثق بالمعلومات التي تصلنا وكيف لنا أن نميز بين الحقيقة والوهم

الموظف ينتظر مقابلًا ليقوم بعمله لم يعد العمل واجبًا تؤديه بإخلاص ولم يعد راتب الوظيفة كافيًا ليجبر الموظف على أداء مهمته دون أن يفتح يده للرشوة فأنت في حاجة إلى دفع المال لإنهاء معاملة بسيطة أو للحصول على حق مشروع وإذا لم تدفع ستظل أوراقك عالقة في أدراج المكاتب أو تائهة بين الإدارات لا أحد يهتم بك ما دمت لم تُرضِ الموظف المتسلط الجالس خلف مكتبه وكأنه إله صغير يتحكم في مصائر الناس أما إذا كنت صاحب حاجة وليس لديك ما تدفعه فليس لك إلا أن تتجرع الذل والمهانة وتنتظر معجزة لن تحدث

السياسي منافق يتحدث عن الوطن فيما يبيع الوطن يتحدث عن الشعب فيما يحتقر الشعب يتحدث عن النزاهة فيما يغرق في الفساد السياسي عندنا لا يرى في السلطة مسؤولية بل يرى فيها مكاسب وامتيازات وصفقات تدر الملايين بينما المواطن البسيط يصارع لأجل لقمة العيش السياسي يرفع الشعارات الرنانة ويتحدث عن التنمية والاستقرار لكنه في الواقع لا يفكر إلا في توسيع نفوذه وتأمين مستقبله ومستقبل أسرته ولو على حساب جوع الناس ومعاناتهم

البائع غشاش مدلس يخلط الجيد بالرديء يغالي في الأسعار يزن البضاعة ناقصة يبيع السلعة الفاسدة وكأن لا ضمير له فليس المهم عنده إلا الربح السريع حتى لو كان ذلك على حساب صحة الناس وقوتهم يأخذ منك السعر كاملاً لكنه يعطيك نصف الجودة أو أقل قد تشتري منه طعامًا ملوثًا أو دواءً مغشوشًا أو سلعة غير صالحة للاستعمال لكنه لا يبالي فهو يبحث عن المكسب ولا شيء سواه فإن لم تغشه سيغشك غيرك فما الذي يجبره على الالتزام بالصدق والأمانة

في كل يوم ترى من القبح والفساد ما تشمئز له النفس ويرتجف له البدن كل شيء يسير في اتجاه خاطئ الأخلاق تتهاوى القيم تتلاشى المبادئ تُشترى وتُباع في أسواق المصالح ولا أحد يحاول إيقاف هذا الانحدار كل شخص يبحث عن مصلحته فقط حتى لو كان ذلك على حساب الآخرين الجميع متورط في لعبة الفساد بشكل أو بآخر حتى الصامت على الفساد هو جزء من منظومته لأنه بسكوته يسمح له بالاستمرار

نحن نحيا في عالم يفتقر إلى الصدق والنزاهة والرحمة والخير أصبح استثناءً وليس قاعدة أصبح الشذوذ عن الأخلاق هو القاعدة بينما الالتزام بها هو الحالة الغريبة التي تحتاج إلى تفسير وتبرير كم مرة رأيت شخصًا نزيهًا يسخر منه الناس لأنه لم يتقن لعبة الخداع كم مرة سمعت عن موظف شريف تمت محاربته لأنه رفض أن يكون جزءًا من آلة الفساد كم مرة شعرت بالغربة وسط أهلك وناسك لأنك ما زلت تؤمن بالقيم التي تعلمتها في طفولتك

نحن في زمن إذا كنت نزيهًا أصبحت غريبًا وإذا كنت صادقًا أصبحت ساذجًا وإذا كنت متقنًا لعملك أصبحت ضحية لهذا النظام المختل الذي يكافئ الفاسد ويقصي النزيه ويمنح الفرص لمن لا يستحقها بينما يحارب أصحاب الكفاءات والقدرات نحن في زمن تتغير فيه المفاهيم حتى صار الخير شرًا والشر خيرًا حتى صار النفاق مهارة والكذب ذكاءً والخداع شطارة

وسط هذه الفوضى الأخلاقية كيف يمكن للإنسان أن يحافظ على قيمه كيف له أن يثبت على مبادئه في مجتمع يرفض الصدق ويحتقر النزاهة كيف له أن يبقى متمسكًا بأخلاقه وهو يرى أن الناجحين هم أولئك الذين تخلوا عنها كيف له أن يظل نزيهًا وهو يعلم أن النزاهة لا تطعمه خبزًا ولا توفر له حياة كريمة بل تجعله هدفًا لحرب لا تنتهي من التهميش والإقصاء

إنها حيرة لا تنتهي وقلب يئن من القلق والوجع والخوف من غد لا يبدو أفضل من اليوم.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights