

قرأت في بعض الكتب أن رجلا جاء إلى أحد الكرماء و قال له: أنت الذي مددت إلي يد الكرم و العطف و الإحسان يوم أصبت ببعض الغِيَر (١)…، فقال: أهلًا و سهلًا و مرحبًا بمن يتوسل إلينا بنا… ثم ما لبث أن قضى حاجته، و حقق رجاءه.
لما اطلعت على هذه الإجابة النبيلة الموحية الكريمة… أفدت منها إيحاءة جعلتني أبادر بالتوجه إلى ربي (و هو أكرم الأكرمين و أعظم المعطين) عبر الكلمات المتواضعة التالية:
– يا أكرم الأكرمين ورب العالمين: لقد أنعمت علي بنعم لا تعد و لا تحصى {و إن تعدوا نعمة الله لا تحصوها}، أعظمها نعمة الإيمان…فقد هديتني-بفضلك وكرمك- لنعمة التوحيد {وما كنا لنهتدي لو لا أن هدانا الله}، وأنقذتني من الكفر والشرك والضلال، فلك الحمد والشكر يا رب على هذه النعمة الكبرى و المنة العظمى.
* و من نعمك علي -كذلك- أنك خلقتني في بيت علم وصلاح، ونشَّأتني في مغرس كريم، ففتحت عيني – والحمد لله – في ظلال نور العلم والمعرفة، وجو القرطاس و القلم، إذ وجدت أبي -رحمه الله- (٢) لا شغل له إلا العلم و العلم فقط، فالعلم كان شعاره ودثاره، وزاده و شرابه، وشغله الشاغل الوحيد الحبيب إليه و العزيز عليه، فكان معظم حديثه عن العلم وما يتعلق به، والكتاب وعالَمه، فدنياه دنيا العلم والكتاب، والقراءة و الكتابة، فنشأتُ -طبعًا- على حب العلم والأدب، والحرص على استقائهما من مناهلهما والبحث عنهما في مظانهما، وكان تمام فضلك علي -بهذا الصدد- أن:
* أتحت لي الفرصة لأخذ العلم من منابعه الأصيلة المباركة.. في الرحاب الطاهرة.. تلك البقاع المقدسة التي تشرفت بآخر اتصال -مباشر- للأرض بالسماء… مهبط الوحي.. منزل التشريع الإسلامي وعاصمة الحكم الإسلامي الأول: مثوى الرسول -صلى الله عليه وسلم-.. موئل الرسالة.. محط الأنوار والبركات: (المدينة المنورة) على منورها ألف ألف تحية وسلام، في جامعتها الإسلامية المباركة، حيث تيسر لي -هناك- نهلُ العلم ممن حملوه و أشرب في قلوبهم، من المتخصصين الأعلام الأفذاذ، الذين كان معظمهم من أبناء أولئك العرب الذين شرفهم الله بكونهم من طليعة جنود الإسلام، والمتلقين الأولين لعلوم الكتاب والسنة وتلاميذ مدرسة النبوة المباركة – ممن كانت الجامعة تستقطبهم من الأساتذة الفضلاء من أبناء المملكة و غيرها من البلدان العربية والإسلامية والصديقة.
فبفضل الدراسة في الجامعة الإسلامية سعدت بالإقامة في المدينة النبوية و أداء الصلوات في الحرم النبوي، والصلاة والسلام على صاحبه الاكرم، وحضور حلقاته العلمية و… و… لمدة استمرت نحو أربع سنوات.
إنها ذكريات مضمخة بالطيب، وفترة تاريخية -يفوح منها العطر- من حياتنا نحن طلاب الندوة المبتعثين إلى الجامعة الإسلامية.
يا سقى الله تلك الأيام… أيام الدراسة -في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة- بنفحاتها ونسائمها ورحماتها وخيراتها، وربيعها وخيرها.
كل ذلك من عظيم نعمك علي يا رب.. فلك الحمد والشكر.
كانت نعمك عليّ تترى… وآلاؤك جسيمة متصلة لا تنقطع سلسلتها منذ أن بدأت أعي و أشعر… فمن تلك النعم الجليلة:
* أنك شرفتني بحج بيتك العتيق مرات..، أما العمرة فمرات وكرات.. فضلًا منك وكرمًا.. لا استحقاقًا مني لها..
وإن أنس فلم ولا ولن أنسى ذلك اليوم الأغر الأبلج الأعظم سعادة وبركة -من حياتي- الذي شرفتني فيه بالحضور إلى داخل بيتك المعظم برفقة عدد من عبادك الصالحين، منهم عبدك التقي أبو الحسن علي -هكذا نحسبه وأنت حسيبه، ولا نزكي عليك أحدا-… الأمر الذي اعتبره تتويجًا لسعادتي، وغرة عزتي، وواسطة عقد حياتي، وبيت القصيد من سلسلة أفضالك وإنعاماتك علي.
فهل هناك شرف أعظم وأسمى من أن يسعد المسلم بدخول أول وأطهر بيت وضع للناس.
ولعمري إنها لنعمة – نعمة دخول الكعبة – لم أحلم بها قط، وما كان لي أن اتشرف بها لو لا أنك أسعدتني بها..
ويومها -يوم الكعبة- وفقتني لأن أسألك.. فسألتك فيها ما سألت.. وانت أعلم بما سألت.. وأكرمتني بالاستجابة لأحب ما سألتك ودعوتك من أدعيتي تلك.. التي وفقت فيها لرفعها إليك.. فلك الحمد والشكر يا رب.
* ومن نعمك عليّ -كذلك- أنك أوزعتني حب اللغة العربية التي اخترتَها فجعلتها لغة قرآنك ونبيك، فوفقتني للعكوف على دراستها وبذل أقصى الجهود في تعلمها، ثم لخدمتها عبر التدريس والكتابة والتأليف قدر المستطاع…، الأمر الذي اعتبره مفخرتي، ورأس مال حياتي، فلك الحمد والشكر يا رب على هذا التوفيق.
* جُبلتُ على حب الخلوة وإيثار العزلة على المخالطة، وأعتبر ذلك -أيضا- من النعم، فالخلوة والاحتراز -بقدر الإمكان- من المزاورة والمشاركة -غير الضرورية- في الحفلات والمناسبات والولائم الأسرية.. سبب لي فوائد جمة، من أعظمها أنها -العزلة- تعين في تحصيل ما يجمع معظم الهم…، وبالتالي تُيَسِّر لشغل الوقت بالنافع من الأمور.. وعلى رأسها القراءة والكتابة، وإراحة القلب مما يكدر الطبع ويعكر الصفاء ويشوش الذهن، وعدم ضياع الوقت فيما لا يعود بخير.
ففي الجملة أستطيع أن أقول-تحديثًا بالنعمة {وأما بنعمة ربك فحدث}- أنك جعلتني من المجدودين المحظوظين…، حيث حققت معظم آمالي وطموحاتي التي تاقت إليها نفسي، وجعلت كثيرا من أحلام يقظتي واقعًا وحقيقة أعيشها، ووفرت لي عيش الأمان و حياة السعادة.
فيا من أحسنت إلي.. وأعطيتني كثيرًا من نعمك قبل أن أطلبها.. تفضل عليّ بالذي أطلبه منك..
فبنعمك السالفة الذكر -وغيرها مما لا يأتي عليه الحصر- أتوسل إليك.. أن:
تحسن عاقبتي كما أحسنت دنياي..
وتسعدني في آخرتي كما أسعدتني في الأولى، وتنقذني من النار: {فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور}
الهوامش:
(١) الغير – بكسر الغين وفتح الياء – حوادث الدهر ومصائبه.
(٢) هو الشيخ محمد برهان الدين السنبهلي رحمه الله، أحد أعلام العلماء في الهند، ورئيس قسم التفسير بندوة العلماء سابقًا، درّس فيها أمهات كتب التفسير والحديث والفقه نصف قرن كاملًا، توفي في ٢٠٢٠م.
(الجمعة: ٣ من جمادى الثانية ١٤٤٦ھ = ٦ من ديسمبر ٢٠٢٤م)