مقالات

محمد نعمان الدين الندوي يكتب: بين مَرَض ومَرَض

إن نعم الله على عباده كثيرة لا تعد ولا تحصى {وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها}.

ومن أجلّ هذه النعم خطرا وأعظمها قدرا: نعمة الصحة.. ويا لها من نعمة!

ولكنها – مثل النعم الأخرى – نعمة لا يشعر بقيمتها وعظمتها إلا فاقدوها..

ومن هنا.. قيل: الصحة تاج على رؤوس الأصحاء لا يراه إلا المرضٰى!

نعم. الصحة تاج لا يقيّم ولا يُعَوّض ولا يرى.. حتى صاحب التاج نفسه لا يكاد يقدِّر قيمة تاجه ولا يكاد يراه..

ألا.. إن الصحة أكبر نعمة ربانية وأجل منحة إلهية بعد «نعمة الإيمان» الكبرى..

فجميع النعم لا معنى لها ولا خير فيها إذا حُرِم الإنسان نعمة الصحة.. لا القناطير المقنطرة من المال تغني، ولا كثرة الخدم والحشم تنفع، ولا الجاه والمنصب يفيد إذا حُرم الإنسانُ نعمةَ الصحة.. وقد قيل: الصحة لا تشترى بالمال..

فلو كانت الصحة تشترى بالمال، لمَا مرض الأغنياء أو الملوك والرؤساء..

وإذا ذهبت الصحة -لا قدر الله- يوما.. فلا تعود غالبا إلا إذا شاء من بيده إعطاء الصحة والمرض..

متعنا الله جميعا بالصحة والعافية.. وأبعد عنا الأمراض والأسقام الجسمانية.

                                      * * *

ولست الآن بصدد الكلام عن مرض من أمراض الجسم.

وإنما موضوع حديثي في هذه السطور: مرض معنوي خطير.. نتائجه أبعد أثرا وأشد خطرا من المرض البدني..

فمن هنا.. إن التحذير في القرآن الكريم من هذا المرض المعنوي أشد منه من المرض الجسماني، لأن المرض الجسماني إذا ضر.. فلا يضر إلا في الحياة الدنيا.. بينما المرض المعنوي يدمر العقيدة ويفسد الآخرة..

فما هو المرض المعنوي؟

إنه المرض الفكري العقائدي.. الذي نعى عليه القرآن الكريم محذرا منه ومشنِّعا عليه: {في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون}..

فما هذا المرض -الذي هدد الله أصحابه بالعذاب الأليم- يا ترى؟

إنه الفساد الذي يصيب العقيدة، من الشك والنفاق، والجحود والتكذيب.

والمعنى: قلوبهم مريضة لخلوها من العصمة والتوفيق، والرعاية والتأييد.

فلنر كيف أن الله سبحانه هوّل: «المرض الفكري» وفظّع شأنه، وشدد في التحذير منه، لأن التساهل فيه يؤدي إلى عاقبة وخيمة من العذاب الأليم.

لقد تعددت وتنوعت مسارب هذا المرض، وخفيت مداخله وأعراضه، فالإنسان قد يمرض بهذا المرض المدمر وهو لا يشعر بدبيبه أو لا يحس بخطورته وأضراره.

إن هذا المرض -الشك والارتياب في حقائق الدين وثوابته- قد يصاب به المرء نتيجة تعلمه في المدارس والكليات والجامعات العصرية، التي تدرس فيها المواد التي تزرع الشكوك والشبهات في أذهان الدارسين الناشئين تجاه المرتكزات والأسس لديننا الحنيف.

كما يؤدي إلى هذا المرض ما يعبر عنه بـ«عملية» «غسيل الدماغ» ( brain washjng ) الذي يقصد به تحويل الفرد عن اتجاهاته وقيمه وأنماطه السلوكية وقناعاته، وتبنيه لقيم أخرى جديدة، تفرض عليه من قبل جهة ما.

فكم رأينا ممن ذهب من أبناء الأمة الإسلامية إلى جامعات أوربا وأمريكا باسم تلقي: «الدراسات العليا»، تأثروا بالأفكار والنظريات الغربية، ورجعوا -على الأقل- زاهدين في قناعاتهم التي كانوا ذهبوا بها.. ساخرين من سلوكياتهم وأخلاقهم التي تربوا عليها، كما رجع عدد غير قليل منهم ثائرين على الثوابت والأسس، محاربين إياها حربا لا هوادة فيها ولا رحمة.

ومما زاد الطين بلة ثورة التكنولوجيا الإعلامية ثم غزو طوفان وسائل التواصل الاجتماعي أخيرا.

فالإسلام يحارَب من جهاته الأربع، كما تسمم أذهان العامة والنشء الجديد بصفة خاصة بالمواد المشككة في حقائق الدين وخصائصه.

وكل ذلك يسهم في نشر المرض الفكري أو قل: الارتداد الفكري بين الشباب والطبقة المثقفة بالثقافة العصرية بصفة خاصة.

لا شك أن الشباب والطبقة المثقفة أكثر من يتعرض لهذا المرض ويصاب به،

أوَلا تحبون أيها الكبار وأيها الآباء والأمهات أن تجنبوا الصغار والأولاد هذا المرض الفكري / العقائدي / الارتدادي..

ألا تضعون أمام أعينكم هذه الآية الكريمة: {أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلها واحدا، ونحن له مسلمون}.

أوَلا تحرصون على إنقاذ فلذات أكبادكم وأشبال الإسلام من النار كما تحرصون على إنقاذ نفوسكم منها؟

إن أول ما يجب أن يهتم به المربون والأساتذة والمرشدون إنقاذ الجيل الحاضر والأجيال القادمة من الردة الفكرية/ العقائدية.

وإلا فنحن نكون مسؤولين عند الله سبحانه يوم القيامة.

ألا هل بلغت؟!

اللهم فاشهد!

محمد نعمان الدين الندوي

  • مدير معهد الدراسات العلمية، ندوة العلماء، لكناؤ الهند
  • رئيس تحرير مجلة «الصحوة الإسلامية» سابقا

(الخميس: ٦ رجب ١٤٤٥ھ – ١٨ يناير ٢٠٢٤م )

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى