مقالات

محمد نعمان الدين الندوي يكتب: تَعَامُلُنا مع «الكتابين» بين المفروض والواقع

لله قرآنان أو كتابان..

أحدهما مقروء مسموع.. والثاني: مُشاهَد منظور..

وكلاهما واضح مفتوح مُيَسَّر للتذكر والتدبر.. معروض على القلوب والعقول، والأسماع والأبصار.. ناطق بقدرة الله، شاهد بعظمته، مقرِّرٌ حقيقة واحدة، تتمثل في أنّ الله واحد، وأنه رب كل شيء..

فالأول: «القرآن الكريم»

ذلك الكتاب الذي صنعه الله على عينه، ووضع فيه مكنون سره وكنوز أمره.. الكتاب المعجز الذي تحدى..  فعجز أمراء البيان عن الإتيان حتى بأصغر جزء من مثله، وضعفوا عن مواجهة تحديه، وانبهروا بجمال تركيبه، وسُحِروا بروعة بيانه، وسجدوا لبلاغته، وخضعوا لفصاحته خضوعًا جعل أحدهم يعلن إعلانًا مُقرّا بكون القرآن الكريم فوق قدرة البشر: ” إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه لمثمر أعلاه، مغدق أسفله، وإنه ليحطم ما تحته، وإنه ليعلو ولا يعلى عليه “.

والثاني: كتاب «الطبيعة»..

كتاب «الكون» الذي تراه العيون وتقرأه القلوب..

الكتاب الزاخر ببدائع صنع الله وروائع خلقه: {صنع الله الذي أتقن كل شيء}.

الكتاب الذي يشاهده الأعمى بعين حسه وشعوره، فضلًا عن الإنسان البصير ذي العينين، اللتين تريان -كل حين وآن- كل ما أودع الله الكون من عجائب الروائع وغرائب البدائع ما يجل عن الوصف ويربو على الإحصاء..

الكتاب الرائع الممتع، الهائل الفسيح الممتد ما امتد بصرك.. {ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير}.

الكتاب الذي تتمثل آياته في أفلاك الفضاء وأجرامه، في نجوم السماء وكواكبها، في قمرها وشمسها… وفي بحار الأرض وأنهارها، وجبالها وصخورها، ووديانها وصحاريها، وحقولها وزروعها، وحدائقها وبساتينها.. وما إلى ذلك من مظاهر الجمال والجلال والروعة، من بدائع: «كتاب الكون» وعجائبه، التي لا يحصيها إلا خالقها جل وعلا..

الكتاب الشاهد -بنظامه وتنسيقه- بوحدانية الصانع المقدر المدبر..

وفي كل شيء له آية

تدل على أنه واحد

أما الكتاب الأول: «القرآن الكريم»..

فقد كان أنزل ليرفعنا.. ليهدينا.. ليحيينا..

و-طبعًا- كان الرفع والهداية والإحياء منوطًا بالعمل بالقرآن الكريم وتنفيذه في الحياة على مستوى الفرد والجماعة والدولة…

و-فعلًا- كنا مرفوعي الهامة، سامي المكانة، مسموعي الكلمة ما دام القرآن دستور حياتنا، ونظام معيشتنا.. منه نستنبط أحكامنا، وفي ضوئه نسير، ومن نوره نقتبس..

ثم بدأ انحطاطنا يوم أن بدأنا نُقَصِّر في كتاب ربنا قراءة وفهمًا وتطبيقًا.. فلما تخلفنا عنه وهجرناه، تخَلَّف عنا النصرُ، وتأخرنا عن مطاف العز، وهجَرَنا رضا الرب..

ومن المضحك المبكي أن الكتاب الذي جاء ليمنحنا الحياة.. نقرؤه على المحتَضَر ليموت بسلام.. كما قال إقبال رحمه الله.

فهل هناك تعامل أقبح وأخزى من تعاملنا مع القرآن؟

وهل هناك ظلم أعظم من ظلمنا على القرآن؟ (والظلم يُعَرّف بأنه وضع الشيء في غير محله)   فقد جعلناه كتابًا يسهل الموت!

سبحان الله.. يعني قلبنا الأمر رأسًا على عقب.. حوَّلْنا كتاب الأحياء إلى كتاب الأموات…

اللهم بَصِّرنا بعظمة قرآننا.. ووفَّقْنا إلى تحكيمه في سائر شؤون حياتنا..

ألا.. إن عزنا في الدنيا والآخرة مقرونٌ بالكتاب والسنة..

وقد أصاب من قال: إن نجاح المسلمين يكمن في أن يرجعوا القهقرى، ويعودوا إلى الوراء.. حتى يلحقوا بالجيل القرآني.. جيل الصحابة الأغر، الذي يعد -عن جدارة واستحقاق- أفضل أجيال البشر بعد الأنبياء عليهم السلام..

فإلى القرآن يا أمة القرآن!

و إن من العجب العجاب أن أمة القرآن زهدت في القرآن.. وهي تؤمن بكونه كتاب رب العالمين، وتعتبره مصدر عزها وشرفها، وتستعد -دائمًا- للتضحية بما تستطيع من الغالي والنفيس دفاعًا عن حرمة كتابها، ولا تتحمل أي مساس بقدسيته..

رغم هذه الغيرة المحمودة والعاطفة المشبوبة.. تتولى الأمة عن قرآنها وترغب عنه، وتستبدل به القوانينَ الوضعية السطحية، التي لا خير فيها للأمة.. وقد جربتها الأمة مرارًا وتكرارًا..  فما أفادت منها خيرًا، ولا كسبت بها تقدمًا ولا ازدهارًا.. بل ما جنت منها إلا تخلفًا وإدبارًا.. وتبعية ممقوتة.. وعيشًا على الهامش، وسيرًا في مؤخرة الركب وذيل القافلة.. بعد أن كانت في مقدمتها.. وفي مأخذ الزمام.. وفي مقام القيادة والريادة…

يمكن أن أممًا أخرى قد ترقى وتسمو بنظمها وقوانينها تلك..

أما الأمة المحمدية فلا ضمان لفلاحها إلا بالاعتصام بحبل القرآن والتمسك بالسنة..

فلنعد إلى القرآن، يعد إلينا عزنا الذي فقدناه منذ قرون..

فهل من عودة إلى منابع عزنا وقوتنا؟

(ليلة الثلاثاء: ٢١ من صفر ١٤٤٦ھ – ٢٦ من أغسطس ٢٠٢٤م)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى