أيها العرب! يحييكم حكيم الشعراء في الجاهلية زهير بن أبي سلمى تحية الصباح قائلًا: أنعموا صباحًا.. وينصحكم نصيحة غالية، إذا وضعتموها نصب أعينكم، وطبقتموها في حياتكم، أحرزتم العز والانتصار:
وَمَنْ لَمْ يَذُدْ عَنْ حَوْضِهِ بِسِلاحِهِ يُهدمْ
يهدم………. البيت
ويخاطبكم شاعر العرب الحكيم أبو الطيب المتنبي قائلًا: صباح الخير يا عرب.. و يدعوكم إلى الجد والنضال، والأخذ بالحذر:
ومن عرف الأيام معرفتي بها
وبالناس روى رمحه غير راحم
فليس بمرحوم إذا ظفروا به
ولا في الردى الجاري عليهم بآثم
والقرآن يأمركم أنتم وإيانا جميعًا منذ أربعة عشر قرنًا أن نأخذ من العدة المادية كل ما استطعنا لمواجهة العدو: {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم}.
والرسول الصادق المصدوق كان حذّر العرب متنبأً بأخطار المستقبل: «ويل للعرب من شر قد اقترب»، والتنبؤ قد وقع، والشر قد ظهر، والفتن لا أول لها ولا آخر..
والأمة تمر بأحط الأدوار وأقسى الظروف من التاريخ، وتُسقى علقم العدوان، ويحدث في أراضيها من المجازر ما يشيب لهوله الولدان،
وتتفطر له القلوب، وتتعرض حرماتنا ومقدساتنا للتدنيس والاعتداء بأنجس خلق الله، والأمم تتداعى علينا تداعي الأكلة على القصعة.
وللمستعمرين وإن ألانوا ::: قلوب كالحجارة لا ترق
فإذا لم يستيقظ العرب الآن وقد بلغ السيل الزبى وطم الوادي على القرى.. فمتى يستيقظون يا ترى؟
فالظروف جد خطرة ومتأزمة.. وتتطلب الأخذ بغاية من الحذر واليقظة.. والبعدَ كل البعد من مواطن الهزل والعبث،
بل ولا تسمح بما يشبه اللعب والطرب، وما يمارس من المناشط باسم الترفيه والترويح..
* * *
وطننا العربي الغالي العزيز صار مرتعًا غريض الكلأ تخور فيه السوائم الأجنبية خوار الظلم والعدوان، وحمى مباحًا.. تطؤه الأقدام النجسة، ويغزوه من يشاء غزوه.. ويُدَمِّر من بلدانه ما شاء ومتى شاء.. (ما غزي قوم في عقر دارهم إلا ذلوا)..
وأصحابه -الوطن العربي- المالكون عاجزون عن رد العدوان.. وكيل الصاع بالصاع.. فضلًا عن الصاع بالصاعين أو أكثر.. (لأن أسلحتهم -كما قال بعض الصحفيين العرب- فراخ مدجًنة في قُنً).
فهم قوم مهذبون مؤدبون مسالمون، صاروا يرحبون بكل معتد وكل غاز ومحتل.. لأن الرد بالمثل من سوء الأدب في حق الجناة النبلاء.. والتصدي للعدوان لا يتلاءم مع مكانة ذويه السادةِ الغزاةِ الشرفاء..
يا للعجب! أحفاد الفاتحين من الغر الميامين، الذين فتحوا العالم بقوة إيمانهم، رغم ضآلة عدتهم وعتادهم، ولم يخافوا أقوى القوى في عصرهم،
بل هزموها شر هزيمة، لم تقم لها قائمة بعدها، أحفادُ أولئك الفاتحين العظام يَضعُفون اليوم عن مقاومة الطواغيت، ويرضون بالذل والهوان..
أيها العرب! ماذا كنتم.. وماذا صرتم؟
كنتم مضرب المثل في الغيرة والإباء..
أنسيتم قول قائل منكم في إباء الضيم ومنازلة العدو؟:
سل الرماح العوالي عن معالينا
واستشهد البيض هل خاب الرجا فينا
وأما مرّت عليكم هذه الأبيات التي تتحدث عن رفض الذل:
نبذوا المذلة في الدنيا فعندهم
عز الحياة وعز الموت سيان
لا يركعون على ضيم يحاوله
باغ من الإنس أو طاغ من الجان
ولا إخالكم غير مطلعين على هذه الأبيات التي قالها شاعر منكم معاصر:
وما استعصى على قوم منال
إذا الإقدام كان لهم ركابا
وما نيل المطالب بالتمني
ولكن تؤخذ الدنيا غلابا
القضايا لا تحل بالقرارات والمؤتمرات والمفاوضات وصرخات الاحتجاج أو برفع الشكاوي إلى مجلس الأمن.. وإنما تحل بالقوة.. والقوة فقط.. ألم تسمعوا ما قال شاعركم قديمًا:
السيف أصدق أنباء من الكتب
في حده الحد بين الجد واللعب
بيض الصفائح لا سود الصحائف
في متونهن جلاء الشك والريب
فالحقوق المسلوبة لن تُسترد إلا بالقوة..
والأرض المحتلة لن تحرر إلا بالقوة.. والعدوان لن يوقف إلا بمثله، {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم}.
فلا حياء ولا تأدُّب ولا تردُّد ولا مراعاة ولا تحَفُّظ في مقابلة السوء بالسوء.. ومجازاة الشر بالشر..
الأديان والأعراف والقوانين والتقاليد كلها تبيح بل توجب رد العنوان وإيقاف الجاني عند حده.. ولم يقل أي منها بالترحيب بالمعتدي، ولا سمح له بالإفساد والتدمير وإزهاق الأرواح..
الأمة تخوض – فعلًا – المعركة، وهي محاصرة بالأعداء، وأصبحت عرضة للأخطار من كل جانب.. والإنسان إذا كان في ساحة الوغى وغمار المعركة لا يفكر في اللعب، ولا يخطر بباله حتى تصوُّرُ اللهو واللعب، فضلًا عن ممارسته والاشتغال بالملاهي والملذات..
فالخطر لم يعد مجرد هاجس.. أو شيئًا موهومًا.. بل كاد أن يكون محقق الوقوع.. وأنتم ما زلتم تغطون في النوم الحلو اللذيذ العميق..
تتشاغلون عنه بالتفاخر والتكاثر
الخطر قد وصل إلى الباب.. وأنتم ما زلتم تتشاغلون عنه بالتفاخر والتكاثر بأرصدتكم في بنوك الأعداء.. بالرحلات الترفيهية إلى بلاد الكفار.. بالمنافسة في المشاريع البنائية العملاقة من الأبراج والفنادق العالية التي تناطح السحاب.. بالملاهي التي يختلط فيها الرجال بالنساء، وتكاد تغيب منها الحشمة والرزانة والوقار، ويغلب فيها ما يخدش المروءة ويُخضع الجبين حياء وخجلًا.. مما يزيد الأمة فضائح إلى فضائح، وهزائم إلى هزائم..
وهنا يحضرني بيت معروف لشاعر الإسلام: «إقبال» الذي يصور فيه مصير الأمم والشعوب قائلا:
«تعال أحدثك عن مصير الأمم: المرحلة الأولى: السيوف والرماح، والمرحلة الثانية: المزامير والغناء»..
ألا.. الملاهي لا تجلب العزة والاحترام، بل تُبعِد الأمة عن المعالي.. وتجرها إلى المخازي..
ولا أمل في عودة العزة والسيادة إلى العرب، وانتعاشِهم من كبوتهم، ونهوضِهم من الحضيض، ما دام فيهم هذا الإسراف في الملذات والإغراق في الملاهي..
ولا يُحترم في الدنيا إلا الأقوياء، ولا يُرحم إلا الشجعان.. بل الأقوياء يحبهم الله ورسوله أيضًا: «المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف».
كان الرئيس الأمريكي يقول: «إذا كنت قويًّا، احترمني الجميع، وإذا كنت ضعيفًا، فلو نزلت الملائكة من السماء تشهد لي، ما صدقني أحد».
والقوة لا تحصل بالمسابقة في البذخ والترف، والتقلب في الحياة الناعمة نعومة الحرير..
وإنما تحصل بالجلادة وحياة التقشف والجد والكفاح.
«والعرب ما ضعفوا -كما قال علي الطنطاوي- إلا حينما فقدوا أخلاق الصحراء.. ومن أخلاق الصحراء الصبر والجلد والاحتمال والصبر والبعد عن النفاق، فثقوا -والكلام ما زال للطنطاوي- بأنكم لا تزالون أقوياء ما دمتم متمسكين بها، تجمعون إلى فضائلها فضيلة العلم والمعرفة بأسرار الفكر». ( ٥/ ١٥٨ )
ثم إننا لا نغلب الآخر باستيراد السلاح منه..
هذا والله شيء عجاب.. نشتري/نتسول السلاح من الآخر/ العدو.. فكيف يعطيك الآخر من السلاح ما تقهر به إياه أو صديقه..
هذا شيء بديهي.. لا يحتاج فهمه إلى ذكاء غير عادي.. يا عقلاء!
وهذا يقتضي – بل يستوجب أن نصل في أقرب وقت ممكن – إلى مرحلة الاكتفاء الذاتي في الصناعة العسكرية.. حتى لا نضطر إلى اشتراء احتياجاتنا العسكرية بأثمان باهظة خيالية، ثم لا يكون – هناك – ضمان بأن يكون المشترٰى على مستوى الجودة المطلوبة..
فالغير/ الآخر ليس به من الغباوة ما يجعله يبيعك من سلاحه، ما تستطيع به إخضاع صديقه!
الشعور بالذل والضيم
ثم المصيبة الكبرى أن الشعور بالذل والضيم صار – أو كاد أن يكون – مفقودًا..
وتلك أحط درجة من الضعة والهوان..
لأنه إذا لم يكن هناك شعور بالجراح.. وغيرة على الأعراض، وحمية للمقدسات، ونخوة للوشائج، وتألم للمآسي.. فالعفاء على العزة والكرامة والحرمات..
إثارة الشعور بالهوان
فلا بد من إثارة الشعور بالهوان.. ولابد من إحياء الغيرة التي عُرف بها العرب، ولا بد من إثارة النخوة التي امتاز بها العرب،
ولا بد من إنعاش الحمية التي كانت من أعظم خصائص العرب.. ولا بد من بعث الحياة في الرجولة التي كانوا يمتازون بها في الماضي.
فالشعور بالذل والتألم للهوان والإحساس بالوضع المزري شرط أساسي للتغيير والإصلاح..
أمة تمتهن كرامتها، وتنتهك أعراضها، وتجرح غيرتها، وتسفك دماء شبابها وصبيانها ورجالها ونسائها، ويساء إلى رموزها،
ويصاب في دينها وعقيدتها، فلا يهيج هائجها، ولا تثور حفيظتها، ولا تغلي حميتها، بل تستمر في ملذاتها، بل تسرف فيها، فمعنى ذلك أنها تستحق الرثاء لحالها.. بل الدعاء لها..
اللهم ارحم العرب.. ورُدَّهم إلى سيرتهم الأولى..
فما دامت هناك بلادة الحس وفقدان الشعور وذهاب الغيرة.. فلا رجاء لصلاح الحال وتحسن الوضع وعودة المكانة السابقة، التي كان يتربع عليها العرب في أوج عظمتهم وسيادتهم.
خير الأمم من تألم للشر يصيبه، والضر يلحق به..
وهل تحاول أمة أن تصلح ما بها إلا إذا بدأت فأحست بالألم..
فالشعور بالجراح والتَّألُّمُ للهوان هو المفقود الأكبر.. وهو – في نفس الوقت – المطلوب الأعظم لاستعادة العزة الضائعة والعظمة الماضية للعرب والمسلمين أجمعين.
فابعثوا هذا الشعور.. الشعور بالجراح.. وانشروه بين الجماهير.. بكل قوة وعلى جميع المنصات والمستويات..
إذا فعلتم ذلك.. أحسنتم إلى أنفسكم وإلى الأمة كلها.. بل الإنسانية بأسرها!
طفح الكأس وفاض القلم
عفوًا ومعذرة أيها العرب الكرام إذا طفح الكأس وفاض القلم وظهر ما استتر في الصدر من الهموم والشجون..
عفوًا على هذه الكلمات الصريحة.. – وأنتم أمة الوضوح والصراحة – أرجو أنكم تقبلونها – على ما فيها من المرارة وشيء من العتاب: وفي العتاب حياة بين أقوام – تقبلونها نصيحة من أخ لكم يحبكم في الله، ويدين لكم بأعز ما لديه، ويعتز بكم، ويتمنى لكم العزة أكثر مما يتمناها لنفسه وأهله وعشيرته، فعزتكم عزتنا، وإذا عز العرب عز المسلمون وعز الإسلام.. والإسلام روح العروبة والعروبة وعاء الإسلام.
فمصيرنا مرتبط بمصيركم.. إن خيرًا فخير.. وإن… فـ.. ولا قدر الله ذلك..
وأنتم ونحن سائرون في طريق واحد، شركاء مصير واحد، منتظمون في سلك واحد..
فنحن منكم.. وأنتم منا دينا وعقيدة ومصيرًا..
فإذا كان هناك فرق.. ففرق الأستاذية والتلمذة.. والإشراف والاستيحاء.. أنتم أساتذتنا ونحن تلامذتكم.. وأنتم قادتنا ونحن جنودكم..
فنحن نترقب منكم: دورَ المعلم الناصح والرائد الصادق والقائد المنتظَر والمنقذ المخلص..
الأمة تنتظر أن يظهر من العرب: «صلاح دين جديد» يطهر المسجد الأقصى وفلسطين من المحتلين..
كما تنتظر منكم ذلك الدور الذي قمتم به في صدر الإسلام.. فأنقذتم الإنسانية التي كانت قائمة على شفا جرف هار..
الأمة بل البشرية كلها ترجو منكم أن تضطلعوا – مرة أخرى – بذلك الدور المنوط بكم.. فشرفكم الحقيقي فيه.. لا في البترول والحجر والذهب..
فلا تخيبوا هذا الرجاء!
فضلًا.. لا تُخَيِّبُوه!
{وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين}.
(الاثنين: ٢٢ من جمادى الأولى ١٤٤٦ھ = ٢٥ من نوفمبر ٢٠٢٤م)