محمد نعمان الدين الندوي يكتب: في ظلال فكر إقبال: (٢) سر عظمة الإنسان

محمد نعمان الدين الندوي – لكناؤ، الهند

بعون الله تعالى نستهل سلسلة: «في ظلال فكر إقبال» بقصيدة معروفة عصماء، سارت بها الركبان، وجرى بعض أبياتها على كل لسان، ويتغنى بها الأطفال والشبان، وهي -القصيدة- من أحرى قصائد إقبال بالعناية والاهتمام، والنظر في معانيها، ومِن ثَمَّ العمل بمقتضياتها.

البيت:

جب عشق سکھاتا ھے آداب خود آگاہی

کہلتے ہیں غلاموں پر اسرار شہنشاہی

الشرح:

يتحدث إقبال في هذا البيت عن سر عظمة الإنسان، ويكشف اللثام عن العشق الحقيقي، ويشير إلى آثاره ونتائجه وعوائده، فيقول: إن العشق – الحب الصادق – يعرِّف الإنسان بذاته، ويمنحه الوعي بشخصيته، ويرشده إلى حقيقته الأصيلة، فيُشعِره بأنه أشرف خلق الله، إذ أعطاه الله مقامًا أسمى ودرجة أعلى من جميع الخلائق.

فإذا صحا عند إنسان هذا الشعور.. -الشعور بكونه أفضل الخلائق، ونضج الوعيُ بحقيقة ذاته، والوعيُ بالكرامة التي أكرمه ربُّه بها- استثقل حمل الأغلال، وكره حياة القيد والتبعية والخنوع، ولم يرض عنها لحظة في حياته، فنشأت فيه قوة تدفعه إلى النجاة من الأغلال، والتحرر من العبودية، وهذه هي: “الذاتية” -معرفة الذات وإدراكُ حقيقتها- التي تحدث ثورة في تفكيره العبودي، وتستبدل به التفكيرَ الحر.. التفكيرَ الملكي السلطاني، فتثير فيه الغيرةَ والإباء، وتُحدث فيه الطموحَ إلى حياة الشرف والاستقلال، والحرية والسيادة، والتوقَ إلى عرش القيادة وسرير الملك، والتاريخُ -فعلًا- يحفظ أسماء العديد -من المماليك- من أولئك الذين وُفِّقوا لمعرفة الذات، فانكشفت لهم أسرار الملوك، فجلسوا على عرش العز والسيادة، وعاشوا عيش السلاطين.

فالخلاصة أن العشق -الحب الصادق- هو الحقيقة التي تُعَرِّف الإنسان بذاته، وترشده إلى جوهره الأصيل، حتى العبيد إذا عرفوا هذه الحقيقة، اكتشفوا سر ذاتهم، فأدركوا أسرار السلاطين، ونشأ فيهم جوهر يأبى العبودية، ويرفض الذل والخضوع والخنوع، وعاشوا حياة حرة كريمة عزيزة، حياة الإباء والأنفة، حياة التطلع والطموح، وربما يرفعهم هذا الطموح إلى قمة العز والسيادة، فيُكرَمُون بالتيجان على رؤوسهم، ويحظون بالتربع على عروش الملوك في أواوين القصور.

 * * *

البيت:

 عطار ہو، رومی ہو، رازی ہو، غزالی ہو

کچھ ہاتھ نہیں آتا بے آہ سحر گاہی

الشرح:

لله دره.. فما أعظمها من حقيقة أشار إليها الشاعر في هذا البيت، حقيقة يغفل أو يتغافل عنها الكثيرون.. وهي أن الإنسان مهما بلغ من العلم شأوًا بعيدًا، ومهما أوتي من العقل حظًا وافرًا، ومهما برع في مختلف العلوم والفنون والمعارف، ولكنه لا يظفر بطائل.. ما لم يكن مقبلًا على الله، ضارعًا إليه، قانتًا، أواهًا أوابًا إلى ربه في السحر، ذارفًا دموعَ الندامة والاستغفار عند عتبته في الهزيع الأخير من الليل.

ثم يشير -كأمثلة- إلى كبار العلماء والعباقرة الذين نبغوا في مختلف العلوم والمعارف مثل الشاعر الكبير العطار (١)، والشاعر الحكيم الرومي (٢)، والمفسر الشهير الرازي(٣)، والعالم الرباني والفيلسوف العظيم الغزالي(٤)، مؤكدًا على أنهم ما كانوا بلغوا إلى ما بلغوا إليه من العظمة المحسودة، والصدارة العلمية، والعبقرية الفنية، والنفع العام، والتربع على عرش القلوب، لو لم يكونوا على حظ وافر من التقوى والصلاح والربانية، والتضرع إلى الله في خلواتهم، وفي الأسحار بصفة أخص.

فالعلم المحض -مهما تضخم وبلغ من السعة مداه- لا يثمر ثمارًا حقيقية، وليس بنافعٍ شيئًا ما في فهم قضايا الحياة وحلًها، ما لم يُدعم بتفكير غير عادي، وبرصيد كاف من العمل، وهذا لا يحصل إلا بالمعرفة الإلهية، التي لا تنال إلا بالقيام والتضرع والآهات والأنات وسكب العبرات في الليل و الناس نيام.

فالخلاصة أن عطارًا كان أو روميًا، رازيًا كان أو غزاليًا.. لا ظفر لأحد بشيء.. بدون أنات السحر وابتهالاته، ودعواته ومناجاته.

وقد ترجم بعض الفضلاء هذا البيت شعرًا، فقال:

ما كان للرازي وللغزالي

والرومي والعطار من نوال

لو لم يعانوا رغبة الصياح

وصرخة الحيرة في الصباح

والحقيقة أن ساعات السحر ساعات مباركة، جعلها الله موطن رحمته الخاصة، ومهبط بركاته وتوفيقاته العظيمة، فإنها تنعش الروح، وتريح القلوب، وتصقل المواهب، وتفجر القرائح، وتلهم الأفكار، وتصنع الرجال، وتربي العظام.

وكان إقبال نفسه يقدر ساعات السحر تقديرًا عظيمًا، وظل يستفيد منها طول حياته، حتى إنه كان يحرص على الاستيقاظ المبكر مدة إقامته في لندن، يقول: “رغم أن شتاء إنجلترا كان قارسًا جدًا، وكان الهواء البارد يعمل في الجسم عمل السيف، ولكنني لم أترك في لندن التبكير في القيام”، وبما أنه كان عارفًا بقيمة ساعات السحر اللطيفة الملهمة، كان لا يفضل عليها شيئا آخر، ولا يرضى عنها بديلًا، يقول: “خذ مني ما شئت يا رب، ولكن لا تسلبني أنة السحر”.

ولا شك أن لهذا التبكير، والتعرض لنفحات السحر، ومناجاة الرب في هذه الساعة المباركة تأثيرًا في إعطاء شاعريته هذه القوة و القبول والسِّحْر والتميّز، وكان ذلك -التبكير في القيام- عاملًا مهمًّا من عوامل تكوين شخصيته، كما أفاد بذلك الشيخ الندوي رحمه الله في: “روائع إقبال”.

البيت:

نو مید نہ ہو ان سے اے رہبر فرزانہ

کم کوش تو ہیں لیکن بے ذوق نہیں راہی

الشرح:

يخاطب الشاعر في هذا البيت القادةَ والزعماء الذين أصيبوا بالإحباط واليأس حينما رأوا تكاسل أبناء الأمة، وإخلادهم إلى الراحة، وتركَهم حياةَ الجد والجلد والرجولة، فيقول لهم:

أيها القادة العقلاء! صحيح أن الجمهور عادوا كسالى غير مجدين(رغم أن الإسلام يثير في أتباعه روح الكفاح والجد والعمل)، وصاروا أبعد ما يكون من الطموح والتوق إلى المعالي..، ولكن -رغم ذلك- لا تقنطوا منهم.. فمازالت فيهم أهليةٌ للعمل والجد والكفاح، والصلاحيةُ والكفاءة ما برحت فيهم موجودة، ولكنها مهملة مهجورة، مغطاة بغبار الكسل والتواني عن العمل، فهم يحتاجون إلى من ينفض الغبار عن هذه الأهلية والصلاحية المستورة لديهم، ويوقظ القدرات النائمة فيهم من جديد..، إنهم يحتاجون إلى قيادة جادة حازمة عازمة، تحسن استنهاض الهمم، وتفعيل القدرات واستخدامها، وإشعالَ الجذوة الخامدة وإنارتها.

 فإذا وجد الجمهورُ قيادةً راشدة مخلصة، تحسن إصلاحهم والأخذ بأيديهم على الجادة، وتحريك جامدهم، وهَزَّ مشاعرِهم وعواطفِهم، عادوا -من جديد- إلى حياة الجد والعمل، وتركوا حياة الدعة والراحة، واستشعروا بمسؤولياتهم كأبناء خير أمة، فهبّوا وعملوا.. فأحسنوا العمل، وبنوا.. فأحسنوا البناء، ومن ثم أدوا واجبهم -على أحسن ما يرام- نحو النهوض بالأمة وهداية العالم.

وقد بين إقبال هذا المعنى في بيت آخر، فأوضح البيان، يقول:

نہیں ہے نا امید اقبال اپنی کشت ویراں سے

ذرا نم ہو تو یہ مٹی بہت زرخیز ہے ساقی

إن إقبالًا ليس قانطًا من تربته، فإذا سقيت بدموع، نبتت نباتًا حسنًا، وأتت بحاصل كبير.

أي إن إقبالًا -يعني الشاعر نفسه- ليس بقانط من أمته، فالأمة لا تنقصها المشاعر والعواطف، ولا تنقصها الكفاءات والقدرات، وإنما تحتاج من يُحَرّك مشاعرها، ويُشَغّل كفاءاتها، ويؤكد إقبال على ذلك قائلًا: إن ذلك لا يحتاج إلى جهود جبارة ضخمة، بل قليلٌ من المجهود – يُبذَلُ في إيقاظ الأمة – يأتي بحاصل كبير، ويسفر عن نتائج عظيمة بإذن الله تعالى.

البيت:

اے طائر لاہوتی اس رزق سے موت اچھی

جس رزق سے آتی ہو پرواز میں کوتاہی

الشرح:

يقول الشاعر: يا صاح! إن الموت أفضل من رزق يقص قوادمي، ويمنعني من حرية الطيران.

وقال بعض شارحي كلام إقبال إن المراد بـ«طائر لاهوتي»: الأمة، فيقول الشاعر مخاطبًا أبناء أمته:

يهمكم أمرُ معاشكم، وهذا شيء طبيعي، بل هو -طلب الرزق- مطلوب مأمور به: {وابتغوا من فضل الله}، فلا أحد يمنع من الكدّحِ طلبًا في الرزق لسد حاجات الحياة، وقضاء متطلبات المعيشة، ولكن إياكم والرزق الذي يكون عائقًا عن الطيران في فضاء الحرية.. عن الاستقلالية في العمل والجد في مسيرة الحياة، فالرزق الذي يحصل بالاستجداء والتضحية بالإباء، وعلى حساب الغيرة وكرامة النفس.. فالموت أفضل منه.

نعم. الموت أفضل من الرزق الذي لا يستطيع الإنسان حفظ ماء وجهه في كسبه، فالسلام على مثل هذا الرزق المؤدي إلى الإذلال وحط كرامة الإنسان، وإخضاعه، وتمريغ أنفه، وإراقة ماء وجهه.

فالرزق الحلال الطيب المبارك.. هو الرزق الذي يكتسبه الإنسان بكد يمينه وعرق جبينه..

الخلاصة أن لا يخلَّ الإنسان بشرفه، ولا يضحي بكرامته في سبيل نيل الرزق، بل يجب أن تكون مصاد الرزق -أيضا- نبيلة طيبة،

لا تمس كرامة الإنسان ولا تنال من مروءته، وهكذا كان سلفنا رحمهم الله، فيروى عن الإمام الشافعي رحمه الله قولُه المشهور:

«والله لو علمت أن شرب الماء البارد يثلم من مروءتي شيئًا، ما شربته طول حياتي»، وقال لرجلٍ سأله أن يوصيه: «لا تكن عبد غيرك، وقد جعلك الله حرًّا».

والحر الأبي يفضل الموت في عزة على الحياة بذلة:

لا تسقني ماء الحياة بذلة

بل فاسقني بالعز كأس الحنظل

ومن نماذج إباء الشاعر نفسه -أعني إقبالًا- وكرامتِه، أنه -إقبال- لما قدم إليه رئيسُ دولة هدية محترمة بمناسبة عيد ميلاده،

فأبى واستعصم، ورفض قبول الهدية رفضًا باتّاً، وقال: “إن كرامة الفقير تأبى عليّ أن أقبل صدقة الأغنياء”.

البيت:

 دارا و سکندر سے وہ مرد فقیر أولی

ہو جسکی فقیری میں بوئے اسد اللّٰہی (٥)

الشرح:

إن المعدم المفلس الذي يلوح فيه من صفات علي بن أبي طالب رضي الله عنه، أعلى مكانة وأجل مرتبة من الملوك والسلاطين العظام -مثل دارا وسكندر- ذوي القوة والحول والطول، والجنود والبنود.

أي الرجل الذي لا مال عنده ولا جاه، ولا فخفخة ولا أبهة، ولكن يتمتع برصيد ضخم من التقوى والصلاح، وبصفات تشبه صفات علي رضي الله عنه من الزهد في الدنيا وحطامها، والشجاعة والبطولة، والورع والتقوى، والكرم والسخاء وما إلى ذلك..

مثل هذا الرجل خير من الملوك والأمراء والأغنياء والأثرياء، الذين لا حظ لهم مما ينفعهم في الآخرة، لأن ما عند الرجل الفقير يبقى، وما عند الملوك والأمراء يفنى..

البيت:

آئین جواں مرداں، حق گوئ وبے باکی

اللہ کے شیروں کو آتی نہیں روباہی

الشرح:

 وصف إقبال فتيان الإسلام العاملين في سبيل الحق بـأنهم: “أُسُد الله”، فقال: إن شعار الفتيان، ودستور رجال الحق،

وقاعدة أبطال الإسلام: الجراءةُ والصدع بالحق، فهم لا يجبنون عن قول كلمة الحق مهما كانت التحديات،

ومهما كانت العواقب..، إنهم يؤدون فريضة: «كلمة حق عند سلطان جائر» في قوة وصراحة، وهمة وشجاعة.

فالمؤمن لا تكون أخلاقه مثل أخلاق الثعلب، بل يكون شجاعًا شجاعة الأسد، ولا يخاف تهديدًا أو وعيدًا،

ولا يخضعه إغراء أو ترغيب.. بل يقول الحق.. مهما كانت النتائج..!!

الهوامش:

(١) هو فريد الدين العطار (٥٤٠ – ٦١٨ھ) شاعر فارسي، يعتبر أحد أعظم الشعراء المفكرين الصوفيين المسلمين،

عرف بغزارة الإنتاج، وقد تركت أعماله أثرًا ملحوظًا في الأدب الفارسي و في الآداب الإسلامية الأخرى أيضًا.

(٢) هو جلال الدين المعروف بـ: مولانا الرومي (١٢٠٧ – ١٢٧٣ھ)، يعتبر من أبرز أعلام التصوف في التاريخ الإسلامي، وأكثرهم تأثيرًا على مر العصور.

(٣) هو محمد بن عمر بن الحسن بن الحسين بن علي الرازي(٥٤٤ – ٦٠٦ ھ)، إمام مفسر فقيه أصولي صاحب التفسير الكبير، الذي سماه: مفاتيح الغيب.

(٤) هو الإمام مجدد القرن الخامس الهجري: أبو حامد محمد الغزالي(٤٥٠ – ٥٠٥ھ = ١٠٥٨ – ١١١١م).

كان له أثر كبير وبصمة واضحة في عدة علوم، مثل الفلسفة، والفقه، وعلم الكلام، والتصوف، والمنطق، وكتابه المشهور: إحياء علوم الدين.

(٥) دارا: من ملوك إيران العظام (٥٥٠ – ٤٨٦ ق م)،حكم من ٥٢٢ إلى ٤٨٦ ق م.

– سكندر الأكبر عاش ٣٣ فقط، صاحب أعظم مملكة في الدنيا، ولد ٣٥٦ ق م.

(الثلاثاء: ٦ من رجب ١٤٤٦ھ – ٧ من يناير – كانون الثاني – ٢٠٢٥م).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights