بحوث ودراسات

محمد نعمان الدين الندوي يكتب: هل إنسان اليوم حر؟

من وحي الأيام:

إذا سأل سائل: هل إنسان اليوم حر؟

كان جوابنا الحاسم.. -ودونما ترددٍ ولا تلعثمٍ-: لا!

نعم. إن إنسان اليوم ليس بُحُر..

 هذا جوابنا الوحيد الأكيد.. وإن زعم الزاعمون وصرخ الصارخون بملء حناجرهم أن إنسان اليوم يتمتع بحرية لم يتمتع بمثلها قط عبر أي فترة من فترات التاريخ الإنساني..

ومهما تشدقوا وتبجحوا بذلك.. ولكن الواقع يفضحهم ويعري دعواهم.. فالإنسان ما سُلِب حريته في أي عصر مضى، كما سُلبها في هذا العصر بالذات..

وهي -الحرية- أضحت اليوم كـ: «عنقاء مغرب» أو كـ«الكبريت الأحمر»..

لا أقول ما أقول جزافًا.. ولا ألقي الكلام على عواهنه..

بل أقول ما أقول متثبتًا متأكدًا من صحة ما أقول.. وبعد أن عشت: «حرية العصر» المزعومة، وخبرتها وعرفت حقيقتها عبر عدة عقود من الزمن.. {ولا ينبئك مثل خبير}

المضحكات المبكيات

ولكن من المضحكات المبكيات -معًا- أن أعظم ما يُثنى به على هذا العصر، ويفضَّل به على ما سبقه من العصور،

أنه -هذا العصر- حسب زعمهم – عصر الحرية والانفتاح والاستقلال..

وإنها – والله – لَكذبة مفضوحة.. ما كُذِب مثلُها قط..

إذن.. ما هو الصدق الأصدق.. وما هي الحقيقة الكبرى لهذا العصر؟

الحقيقة الكبرى لهذا العصر أن الإنسان لم يفقد حريته قط.. كما فقدها الآن..

إنه لم يفقدها في الجلوة فقط.. بل حرمها في الخلوة أيضًا..

إنه مُراقَب في كل لحظة من لحظات حياته.. يُسجَّل ما تنطق شفتاه، وتُلتَقَط حركاته وسكناته {ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد}

مراقب في مقر عمله، وحجرة درسه، في المنتزهات، وفي المواصلات، وأثناء سيره على الشوارع والأزقة.

نعم. يُسجَّل كلُّ ما ينطق وكلُّ ما يعمل عبر أشياء بسيطة لا يتطرق إليها ظن ظانٍّ أن فيها ما يسجِّل ويحفظ جميع أقوال الإنسان وأعماله.. {لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها}.

حتى حينما يخلو الإنسان بنفسه.. في غرفة نومه.. قد لا يكون ناعم البال مستريح القلب هادئ النفس مرتاحًا آمنًا مطمئنًّا على نفسه..

لا يأمن على سره.. يخاف من شبح يطارده في المنام.. لا يستطيع أن يتكلم بحرية..

لأنه يخاف من الحيطان والسقوف والأركان.. فليس من المستبعد أنها تنصت له.. وتراقبه..

فـ«السِرِّية» (privacy) لم تعد لها عين ولا أثر..

إنها – السرية – أصبحت خبر كان..

كلمة: «السرية» ما زالت موجودة في المعاجم، ولكنها خفيت وتلاشت عن الواقع..

الحرية سراب!

نعم. إن «الحرية» التي لا تكل ألسنتهم عن التشدق بها ليل نهار.. ويُصَدِّعُون بترديدها رؤوسَنا كل حين وآن.. ويتباهون بها على غيرهم من معتنقي الديانات أو الأيديولوجيات الأخرى، ويتعاظمون بها على غيرهم ويتفاخرون..

إنها: «كسراب».. أو دعايةٌ فارغة للحرية.. وما هي بِحُرّية حقيقية.. حرية تُشرِّف الإنسان وتكرمه كما كرمه ربه..

وإذا كانت هناك حرية توجد.. فهي حرية لا سند لها من الدين والمروءة والقيم في شيء..

فبين تصورهم للحرية وبين تصورنا لها بون شاسع.. وبُعْدُ ما بين المشرقين..

حريتهم حرية الهَوى والغَوى.. وحريتنا حرية الهُدى والنُّهى..

حريتهم حرية تهور وتحلل.. وحريتنا حرية انضباط وتَبَصُّر..

حريتهم حرية شيطانية.. {الشيطان سول لهم وأملى لهم} وحريتنا حرية قيمية..

حريتهم حرية هائمة على وجهها.. حرية دون رقابة.. دون وازع من الضمير ولا رادع من الخلق.. وبدون خوف لومة لائم..

حرّية العبث والمجون.. حُرية الإغراق في الملذات دون مراعاة لما يحرم منها أو يحل، بل دون أدنى تفكير فيهما..

حريّة السفور والتبرج والعري، حرية السماح بممارسة الحركات التي تخدش الحياء.. بممارستها علنًا.. باسم «الحرية الشخصية» و«التقدمية» و«التحضر» وما إلى ذلك من الأسماء البراقة..

عفوًا ومعذرة.. إن كل ذلك ليس من الحرية في شيء..

إنها -حرية العصر- اغتيالٌ للطهر والشرف، وانتهاك لحرمة «الإنسانية».. بل شبه انسلاخ منها..

إنها عار.. وشنار.. وفضيحة.. لا علاقة لها بالحرية لا من بعيد فضلًا عن قريب..

والحرية نفسها تتبرأ من ذلك وتتعوذ..

إنها حرية البهائم التي تأخذ حظها من الطعام والشراب كيفما تشاء.. كما تشبع شهوتها بأي طريق كان.. فلا تصور عندها للمحرمات أو المباحات.. فهي ليست بمكلفة مطلقًا، ولم تنزل لها شريعة، تلزمها بالأوامر والنواهي..

إنها حرية عجيبة غريبة تبيح المجون والخلاعة وهتكَ العرض باسم التحضر والمدنية.. ولا عجب في ذلك..

لأنها من متناقضات الحضارة التي تسمي «الإباحية» مدنية، و«التعري» حضارة، و«الرذيلة» فنًّا، و«الخمر» مشروبًا روحيًّا، و«المجاهرة بالرذيلة ” حرية.. وما إلى ذلك..

أما حريتنا فليست حرية مطلقة..

بل إنها حرية مقيدة بقيود.. مضبوطة بضوابط من العقل والدين، والخلق والحياء..

فتصور حريتنا تصور طاهر مقدس، واسع شامل متكامل..

حريتنا لا تمس عقيدة الآخر، ولا تجرح كرامته..

فإسلامنا يضمن حرية العقيدة: {لا إكراه في الدين}.

ويضمن حرية التعبير بشرط أن لا يسيء إلى الآخرين: {ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله}.

والإسلام حرر العقل البشري من الجمود والتقليد، ودعاه للتفكر والتأمل والتدبر.

بل الإسلام حرّر الإنسان من جميع أنواع الاستعباد والاسترقاق.. عبوديةِ الإنسان للإنسان..

عبودية الإنسان للشهوات والملذات، والعادات والتقاليد التي ما أنزل الله بها من سلطان.

متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا

وللإسلام في قضية «الحرية» حساسية زائدة.. فهو يرفض رفضًا باتًّا أي مساس، بل حتى شبه مساس بحرية الإنسان..

بل إنه لا يرضى بما تشم منه رائحة المساس بالحرية.. ويكفينا دلالة على ذلك.. كلمة عمر بن الخطاب رضي الله عنه المشهورة:

«متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا»

التي كان قالها لوالي مصر حينما ضرب ابنُه رجلًا عامِّيًّا.. وصارت الكلمة مضرب المثل، وأصبحت شعار الأحرار الضعفاء وسندهم وقوتهم،

ومبدأ من مبادئ الإسلام الخالدة في الحرية الإنسانية والكرامة البشرية والعدالة الاجتماعية والاشتراكية الإسلامية.

ومن أقواله – أيضًا – في الإشادة بالتصدي للظلم والحث على عدم الخضوع للبغي والعدوان:

«يعجبني من الرجل إذا سيم خطة خسف أن يقول لا بملء فيه».

الحقيقة لن يذوق طعم الحرية الحقيقي إلا من دخل في حظيرة الإسلام، ولاذ بحماه..

فحرية الإسلام حرية حقيقية.. وحرية القوم حرية وهمية خداعة..

حُرية القوم خلاعة ورقاعة.. وحرية الإسلام حشمة ورزانة..

حرّية القوم تمرغ في وحل الشهوات.. وحرية الإسلام تَحَصُّن في إطار الشرع..

حُرية القوم الإساءة والاعتداء، وحرية الإسلام الاحترام والمراعاة..

حريّة القوم التخبط والابتذال، وحرية الإسلام الانضباط والالتزام..

حريةُ القوم انحراف وانزلاق، وحرية الإسلام تماسك واعتصام..

والقول الفصل الأخير:

حرية القوم لعنة.. وحرية الإسلام رحمة.. أو قل: حريتهم تعاسة.. وحرية الإسلام سعادة.. ويا لها من سعادة..

ونحن لسنا مع حرية القوم.. الحرية العارية من أي التزام أو حياء أو عقلانية أو وقار..

ونعلن براءتنا من هذه الحرية المزعومة الفاضحة، فلسنا معها أو دعاتها ولو لحظة واحدة.

وإنما نحن مع الحرية التي سمح بها ديننا الحنيف.. الحرية المنضبطة بالضوابط، الملجَمة بأُطُر من الخُلُق والمروءة والتعقل..

ونحن نسعد بها وندعو إليها في صراحة وقوة واعتزاز مهما كره الكارهون..

ونقول لدعاة حرية القوم! هنيئًا لكم حريتكم.. احتفظوا بها عندكم.. وفضلًا وكرمًا.. لا تُصَدِّروها إلينا..

فلا رغبة لنا في الحرية التي تدعون إليها.. لأنها -في الحقيقة- ليست بِحُرية.. وإنما هي عبودية.. وحبالة.. وخديعة..

والحرية حريتنا.. وهي الأحرى باحتضانها والدعوة إليها، ففيها شرف للإنسانية وعزتها وكرامتها، وبها يمكن التحرر من جميع أنواع الاستعباد..

ومن المعقول وفي مصلحة البشرية جمعاء أن يرَحَّبَ بهذه الحرية -التي جاء بها الإسلام- وتعُمّ العالمَ كله،

وتكون هي الخيار الوحيد للذين يحبون أن تسود الفضيلة والطهر، ويُدْبِر الشر، وتتقهقر الفوضى الخلقية، وتعود إلى العالم فضيلة الحياءُ مرةً أخرى..

على أن كل واحد، له الحق أن يختار أي نوع من «الحريتين»..

ثم لا يلومنَّ إلا نفسَه إذا خانه التوفيق، فاختار حريتهم…!!

{فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر}

{وهديناه النجدين}.

(الاثنين: ١٥ من جمادى الأولى ١٤٤٦ھ = ١٨ من نوفمبر ٢٠٢٤ م)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى