محمد نعمان الدين الندوي يكتب: يقولون: الصمت حكمة!!
يرون من الأهوال والفظائع ما يؤدي إلى همّ متصل يذود النوم عن كل مَن في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان وغيرة وأنفة، وأنباؤها -أنباء الأهوال والفظائع- تصبّحهم وتمسيهم في كل يوم، ولكنهم -مع ذلك- يصمتون..
ويقولون: الصمت حكمة..
نعم. يرون -كل يوم- ما يجعل المسلم الحقيقي على أحر من الجمر، ويقطع نياط قلبه قلقًا وتحرقًا على غربة الإسلام في أقطاره -فضلا عن غيره-، ويصمتون..
ويقولون: الصمت حكمة..
يرون الإسلام يهان، والمسلمين يُمتحَنون بأنواع من المحن.
ويرون شعائر الإسلام تمتهن، ومظاهر الكفر تروج في بلاد المسلمين.
ويرون الأرض المقدسة الإسلامية تداس وتدنس بشذاذ الشعوب وذؤبان الأمم، والحرمات والأعراض تنتهك، ولا يجدون – للأسف – في أنفسهم غضاضة، فلا يحرك كلًُ ذلك منهم ساكنًا، ولا يثير فيهم نخوة ولا حمية، ويصمتون..
ويقولون: الصمت حكمة..
يرون تجاوزَ حدود الله، وشيوع المنكرات جهارًا نهارًا، وظهور الفسق والفجور علنًا، ويصمتون..
ويقولون: الصمت حكمة..
يرون الإسلام رسمًا محيلًا في نفوس الخاصة، وأثرًا مشوهًا ضئيلًا في نفوس العامة، ومقيدًا مكبلًا محددًا في دائرة ضيقة، ويصمتون..
ويقولون: الصمت حكمة..
يرون الخير يكاد يُغلَب في بلاد المسلمين، ويرون سوق الشر فيها تنفُق وتزدهر..
يرون مظاهر فاضحة تنفيها العين، ويمجها الذوق السليم، ويصمتون..
ويقولون: الصمت حكمة..
يرون الصالحين يزج بهم في السجون، ويضيق عليهم الخناق، والحريات تخنق، وأبواب الخير تغلق، وباب الشر يفتح على مصراعيه، ويصمتون..
ويقولون: الصمت حكمة..
يرون أن المعارف تناكرت والإخوة تدابرت.. فلا يتعاونون على البر ولا يتناصرون في الشدة..
وما من إنكار على هذا الجفاء.. ولا نعي على الخذلان..
سكوت مُطبقٌ مُخزٍ على الجرائم التي تمارس بحق الأشقاء..
وكأن هناك إجماعًا انعقد على الصمت، وتواطؤًا – سريًا – على الخذلان..
وسُمّي هذا الصمت والخذلان حكمة!
ويا لها من حكمة غريبة لم تُعرف في زمن مضى..
ليت شعري.. منذ متى صار عدمُ الإنكار على المنكر حكمة..؟
ومنذ متى صار رفع الصوت ضد البغي والطغيان يعد أمرًا غير حكيم..؟
ومنذ متى صار خذلان الشقيق حكمة..؟
ومنذ متى صارت إعانة الأخ على نوائبه، ومشاطرةُ الحزين أحزانه وآلامه عملًا ضد الحكمة..؟
إن المساهمة في تخفيف المعاناة عن المنكوب، ومسح اليد على رأس اليتيم المسكين عملٌ إنساني نبيل قبل أن يكون واجبًا إسلاميًا مقدسًا..
حقًا نعيش في زمن تغيرت فيه المقاييس والقيم، وانقلبت ظهرًا على عقب..
إذا كان السكوت على المنكر حكمة.. فما معنى الحديث المشهور؟ :
«من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان». (رواه مسلم
وأين نحن من الحديث:
«مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر». (رواه مسلم)
أي حكمة هذه.. -يا حكماء الإسلام- أن نرى إخواننا يضطهدون.. ولا ننبس ببنت شفة..
وأن نرى إخواننا يتضورون جوعًا.. ولا نعطيهم كسرة خبز.. بينما نتخم نحن أكلًا.. ونقيم المآدب الفاخرة والولائم الدسمة..
الأصل أن هذا العصر.. عصر التناقضات والتحريفات لمعاني الكلمات ومدلولات الألفاظ، وتسميةِ الأسماء بغير مسمياتها..
فمن هنا.. سُمي التقاعس عن القيام بواجب: «النهي عن المنكر» أو: «السكوت عن كلمة الحق» حكمة.. وإيثارُ المصالح الشخصية كياسة.. والتغافلُ عن مصائب الإخوة عدمَ التدخل في شؤون الآخرين..
وبعد.. إذا كان عدم النصرة للمظلوم، وعدم رفع الصوت ضد الظلم والمنكر حكمة..
فعلى الحكمة السلام..
وَقد آن الأوان لأن نقرأ الفاتحة على الأخوة والمروءة والوفاء بل الإنسانية عامة، لأنها كلمات لم تعد لها عين ولا أثر في منطق العصر، وصارت محفوظة في متحف التاريخ..!
* * *
بعد ما انتهيت من كتابة المقال، وصلني مقطع صوتي للشيخ العلامة ابن عثيمين رحمه الله..
فإذا بالمقطع يدور حول نفس الموضوع، الذي يتحدث فيه المقال..
وكأنني وجدت مددًا غيبيًا، يتمثل في هذا التوارد والتشابه في المعنى..
وحمدت الله أن فكرتي المقدمة في المقال تعضدها كلمة أحد أعلام علماء العصر، الغيارى على الدين والأمة.
يقول الشيخ رحمه الله – وهو ينعى على الأمة إغراقها في ملذاتها وإخواننا يلقون من الاضطهاد ما يلقون:
«والله إننا اليوم غثاء كغثاء السيل، وإلا كيف يطيب لنا منام، ويهنأ لنا أكل، وإخواننا تمزق أوصالهم تمزيقًا.. وتحتل ديارهم، وتنتهك أعراضهم.
أين الإسلام…؟
يعني لو مشى الناس على أقدامهم من أقصى المغرب إلى أقصى المشرق نصرةً لإخوانهم… لم يكن هذا بغريب.. لو كان الدين حقيقة.. لكن مع الأسف… إخواننا يفعل بهم هذا الفعل… ونحن ساكتون نائمون على فرشنا..
والله هذا خزي وعار أمام الله وأمام الخلق».
كان قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله هذه الكلمة الموقظة المنبهة المثيرة للعواطف قبل سنوات.. – وكانت وفاته ١٤٢١ھ – ولم تكن الأوضاع في عصره قد بلغت من الذل والخطورة ما بلغته اليوم…
فكيف لو كان الشيخ حيا يرى ما نرى اليوم…؟!
(ليلة الأحد: ١٢ من صفر ١٤٤٦ھ – ١٧ من أغسطس ٢٠٢٤م ).