مصطفى عبد السلام يكتب: أزمة مصر أكبر من قفزات الدولار والغلاء
يحلو للبعض أن يحشر أزمة مصر الحالية في مؤشر واحد هو اضطرابات سوق الصرف الأجنبي والتذبذبات العنيفة التي يشهدها سعر الدولار مقابل الجنيه المصري والتي دفعت بقيمة العملة الأميركية لأكثر من 70 جنيهاً في السوق السوداء، قبل أن تتراجع جنيهات خلال الأيام الماضية.
ويحلو لآخرين التهوين من تداعيات الأزمة العنيفة التي يعيشها المجتمع حاليا لدرجة أن أستاذ اقتصاد شهيرا قال لي إن «الأزمة يمكن حلها عبر حلول بسيطة منها مصادرة أموال تجار المخدرات والآثار والسلاح بالنقد الأجنبي، وهي بمليارات الدولارات» على حد تقديراته، خاصة إذا ما أضفنا إليها أموال غاسلي الأموال القذرة.
في حين قال اقتصادي آخر إن أزمة مصر تتوقف فورا عقب وقف استيراد السيارات والموبايلات وأدوات التجميل وأكل القطط والكلاب والجبن السويسري والفرنسي والإكسسوارات وغيرها من السلع الاستفزازية.
وكأن مصر غارقة في هذا النوع من الواردات الكمالية والترفيهية، علما بأن واردات الدولة من المواد الخام والسلع الوسيطة ومدخلات الإنتاج واحتياجات المصانع والسلع الرئيسية مثل القمح والزيوت والسكر تفوق كثيرا كلفة السع الأخرى.
وهناك من يرى أن أزمة مصر الحالية تكمن في القفزات غير المسبوقة في أسعار السلع والخدمات، وأن هذه الأزمة لها مبرراتها، من وجهة نظر هؤلاء، وتكمن في جشع التجار والاحتكارات التي تشهدها الأسواق منذ فترة وتعجز الحكومة عن التعامل معها، وهذه الأزمة ستنتهي عقب زيادة المعروض من السلع، وتشديد الرقابة على الأسواق، وقبلها إلقاء الجشعين والمحتكرين في غياهب السجون، ولذا يميل هؤلاء إلى ضرورة استخدام القبضة الأمنية في حل أزمة اقتصادية بحتة هي غلاء الأسعار.
وهناك من «يريح دماغه» ويتبنى نظرية المؤامرة على مصر واقتصادها ومؤسساتها، لذا يفضل هؤلاء إلقاء الأزمة على عوامل خارجية وأزمات شهدها الاقتصاد العالمي في آخر 3 سنوات بسبب جائحة كورونا وحرب أوكرانيا، وما نجم عن الأزمتين من صعود كبير لمعدلات التضخم وكلف الأموال وأسعار الفائدة وتعقد سلاسل التوريد.
وأخيرا حرب غزة التي يزعم هؤلاء أنها كانت السبب الرئيسي وراء اضطرابات الأسعار واختفاء سلع رئيسية مع إقبال مؤسسات الإغاثة على شراء منتجات من الأسواق المصرية لصالح أهالي غزة. وهذا الفريق يتجاهل الأزمة من الأساس.
لكن هذه التفسيرات تظل قاصرة وعاجزة عن تبرير الواقع المر الذي يمر به المواطن، بل وينظر أصحابها تحت أقدامهم ويسعون بكل قوتهم لتبرير الفشل الحالي في كل مناحي الحياة.
فمشكلة مصر الحقيقية لا تكمن فقط في أزمة الدولار وقفزات أسعار السلع الرئيسية كما يردد البعض، ولا تكمن أيضا في جشع التجار كما يروج هؤلاء على نطاق واسع، ولا حتى في تراجع موارد الدولة الدولارية في الفترة الأخيرة خاصة من أنشطة حيوية مثل السياحة وتحويلات المغتربين والصادرات وقناة السويس والاستثمارات المباشرة.
ولا تكمن في العجز الضخم في أصول البنوك من النقد الأجنبي والذي تجاوز 27 مليار دولار، وبما يتجاوز نصف أموال المودعين الدولارية البالغ قيمتها أكثر من 50.4 مليار دولار.
ولا تكمن في الاعتماد المفرط على الاقتراض من دول الخليج والحصول على المزيد من الودائع المساندة واستخدامها في تكوين احتياطي البلاد من النقد الأجنبي، أو سد الفجوات التمويلية الناتجة بشكل أساسي من عجز الميزان التجاري، وهو الفارق بين فاتورة الصادرات والواردات، وإساءة استخدام مواردنا الدولارية.
بل تكمن في أن مصر تعيش ومنذ سنوات أزمة اقتصادية ومالية معقدة ومركبة ومتفاقمة، أزمة لعبت السلطات الحاكمة الدور الرئيسي في تعميقها وتأزيمها بل وصناعتها عبر الإفراط في الاقتراض الخارجي، ورهن مقدرات الدولة للدائنين الخارجيين سواء صندوق النقد والبنك الدوليين أو دول الخليج وغيرها، وإهدار أموال الدولة على بعض المشروعات التي لا تمثل أولوية للاقتصاد والمواطن.
والإصرار على تجاهل دراسات الجدوى عند تنفيذ مشروعات قومية كبرى أبرزها تفريعة قناة السويس والعاصمة الإدارية الجديدة، والاعتماد على جيب المواطن في سداد أعباء الديون الخارجية والداخلية وتغطية عجز الموازنة العامة، والافراط كذلك في زيادة الضرائب والرسوم الحكومية، وهو ما هدد معيشة المواطن ومناخ الاستثمار على حد سواء.
أزمة مصر الاقتصادية تكمن بشكل أساسي في غياب أي أفق لإصلاح سياسي حقيقي يصاحبه إطلاق الحريات العامة والإفراج عن آلاف المعتقلين السياسيين، وإنهاء حالة التشرذم التي يشهدها المجتمع منذ أكثر من 10 سنوات.
يصاحب ذلك تفشي الفقر والبطالة، ومواصلة السلطات الحاكمة تطبيق سياسات “النيو ليبرالية الفجة” التي أفقرت المصريين وقذفت بهم في أتون العوز، وتجاهل الكوادر الاقتصادية والسياسية الوطنية في صناعة القرار والسياسات المطبقة، وبيع أصول الدولة بثمن بخس، مع فقدان ثقة المواطن في إصلاح حال الاقتصاد المائل ووقف تهاوي عملته الوطنية وهدر المال العام وسفه الاقتراض الخارجي غير المبرر، وإصلاح القطاعات الحيوية المرتبطة بالمواطن وفي مقدمتها الصحة والتعليم وسوق العمل.