مقالات

مصطفى عبد السلام يكتب: عندما تتخلى الدول عن المواطن

هناك عقد اجتماعي غير مكتوب بين الدولة ومواطنيها، ضرائب مقابل خدمات، فالدولة تفرض الضرائب والرسوم مقابل توفير الخدمات الضرورية للمواطن: تعليم مجاني حتى الثانوية العامة، يفوق مستواه المدارس الخاصة، وعلاج وتأمين صحي على نفقة الدولة، بخدمة قد تفوق تلك المتوافرة في المستشفيات الخاصة، وراتب مجزٍ في حال فقدان فرصة العمل، وراتب متميز عند الوصول إلى سنّ التقاعد، ومواصلات عامة مجانية أو شبه مجانية، وكبح الغلاء والتضخم، وتخفيف الأعباء المعيشية عن محدودي الدخل، مع توفير الخدمات الضرورية من مياه وكهرباء وغاز طهو بأسعار مناسبة، وشبكة طرق وصرف صحي ومواصلات عامة وغيرها، وإدارة موارد الدولة بشكل احترافي.

أضف إلى ذلك توفير الخدمات التي قامت من أجلها الدول، وهي حماية الأمن القومي للدولة، وصدّ أي عدوان خارجي، وتطبيق القانون ونشر العدل للمحافظة على الحقوق والواجبات، وغيرها من المهمات التي تتشابه فيها كل الدول، وتُموَّل من أموال دافعي الضرائب والممولين.

ببساطة الدولة مطالبة بتوفير الرفاهية للمواطن. وكلما رفعت مستوى الخدمة المقدمة، وزادت من جرعة الخدمات المجانية، وخصوصاً التعليم والصحة ورغيف الخبز، هنا يمكن أن تفكر الحكومات في زيادة الضرائب لتحسين الخدمات وتوسيع قاعدة المستفيدين منها، لكن الزيادة تستهدف هنا بالدرجة الأولى الطبقة الثرية ورجال الأعمال وكبار المستثمرين والمؤسسات الاقتصادية الكبرى، ومنها شركات التكنولوجيا، وليس صغار موظفي الدولة وأصحاب الدخول غير الثابتة والعمال والفلاحين.

فهؤلاء تحنو معظم الحكومات عليهم، بل تمنحهم المزيد من المزايا الاجتماعية من وقت إلى آخر، زيادة في الرواتب والأجور والدخل، شبكة حماية اجتماعية، خفض السلع الرئيسية، خفض الضرائب المستحقة عليهم، وكذا مكافحة الفساد والبيروقراطية داخل المؤسسات ذات الصلة المباشرة بالمواطن.

وفي حال حاجة الدولة وموازنتها لموارد إضافية، ترفع الدولة الضرائب على السلع غير الضرورية للفقراء مثل السجائر والتبغ والخمور والمشروبات الغازية ومشروبات الطاقة أو تلك المحلاة بسكر، وعلى السلع المستوردة مرتفعة السعر والسيارات وأجهزة المحمول وغيرها. وكذا تفرض ضريبة الكربون للحد من التلوث وخفض الانبعاثات الضارة بالصحة العامة من عوادم السيارات واستهلاك الوقود من بنزين وسولار، وهي ضريبة مرتبطة بأصحاب السيارات.

في المنطقة العربية تجد أن الاتجاه الغالب في معظم دوله، هو لخنق المواطن بكل أنواع الضرائب وتحت مسميات عجيبة، قيمة مضافة، ضريبة على الدخل، ضرائب انتقائية، ضرائب مباشرة وغير مباشرة، ضرائب تصاعدية، ضريبة أرباح رأسمالية، والاستقطاع من المنبع، وحتى ضريبة على الباعة الجائلين، وأخرى على مواقع التواصل الاجتماعي والتطبيقات الإلكترونية، وفي مقابل جبال الضرائب تلك، نجد خدمات متدنية، وأحياناً لا خدمات من الأصل، ولا حقوق للمواطن، كل حقه ضرب رأسه في أقرب حائط أو الانتحار في حال الاعتراض على السياسات الضريبية المطبقة.

في المقابل، نجد أنّ الدول الديمقراطية ذات الحكومات المنتخبة تتنافس حكوماتها على تخفيف الأعباء الضريبية والرسوم عن المواطن، وزيادة حد الإعفاءات الضريبية، بل أحياناً تُخفَض الضرائب أو يُوقف العمل بها، كما حدث عقب موجة التضخم الجامحة التي شهدها العالم عقب اندلاع حرب أوكرانيا، أو أزمة كورونا. مثلاً، أجلت دولة أوروبية فرض ضريبة ثابتة على الموظفين بنسبة 15% قبل عامين. كذلك خُفضَت الضرائب على الشركات والمستثمرين بهدف تشجيع هؤلاء على إقامة مشروعات جديدة، وبالتالي توفير فرص عمل للعاطلين من العمل.

وهذا الأسبوع، اقترح حزب التجمع الوطني اليميني المتطرف في فرنسا، الذي فاز بأكبر عدد من المقاعد في البرلمان في الانتخابات الأخيرة، تخفيضات ضريبية واسعة النطاق. وقال تقرير حديث إن حزب العمال البريطاني الفائز في انتخابات الخميس الماضي يستطيع خفض الضرائب بنحو 16 مليار جنيه إسترليني. كذلك وعد الحزب في المقابل بفرض ضريبة عالية على المدارس الخاصة لحلّ أزمة تمويل حادة في قطاع التعليم الحكومي.

وفي سبتمبر 2022 عندما وجد الاتحاد الأوروبي أن هناك قفزات في أسعار الوقود والسلع الغذائية، فُرضَت ضرائب استثنائية على شركات الطاقة وسلاسل المحال الكبرى، أي المستثمرين، بهدف مواجهة ارتفاع الأسعار.

ونهاية شهر ديسمبر الماضي تبنّى مجلس الشيوخ الإيطالي موازنة عام 2024 التي تضحي بالاستثمار لصالح خفض المساهمات الاجتماعية والضرائب احتراماً للوعود الانتخابية التي قطعتها رئيسة الوزراء جورجيا ميلوني. وهناك دول خفضت ضريبة الأدوية.

المبالغة في فرض الضرائب ترفع مستوى التهرب الضريبي، وتقتل مناخ الاستثمار وأنشطة الاقتصاد، والقاعدة البسيطة تقول إنّ الدولة تحصل على ضرائب مقابل تقديم خدمات، فإن لم تفِ بوعدها، فمن حق المواطن التوقف عن سداد الضرائب والالتزامات المستحقة عليه إلى حين الوفاء بتعهداتها. ويكفي القول إنّ قيمة التهرّب الضريبي حول العالم تُقدّر بنحو 483 مليار دولار في السنة.

مصطفى عبد السلام

كاتب صحفي مصري، وخبير اقتصادي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى