معادلة لا حرب ولا مفاوضات .. هل تفرض نفسها علي العلاقات الأمريكية الإيرانية خلال عهد ترامب؟
تحاول هذه الدراسة الغوص في أعماق الموقف الإيراني من عودة الرئيس ترامب إلى البيت الأبيض، وتأثير هذا على العلاقات الإيرانية الأميركية، خاصة في ظل التغيرات الجيوسياسية المتسارعة في المنطقة.
وتسعي دراسة مركز أمد للدراسات الاستراتيجية كذلك للرد علي تساؤل كيف يمكن أن تضع عودة ترامب، المعروف بسياسة “الضغط الأقصى”، تحديات جديدة أمام إيران، مع احتمال فرض عقوبات مشددة تستهدف بشكل خاص قطاع النفط الإيراني.
كما تناقش إمكانية استمرار إيران في استراتيجية “لا حرب ولا تفاوض” التي تبنتها خلال فترة ترامب السابقة، وذلك في ضوء التحولات السياسية والأمنية، بما في ذلك الصراع المباشر مع إسرائيل وإمكانية تشكيل تحالف مع ترامب لضرب المفاعلات النووية الإيرانية وتأثير كل ذلك على موقف إيران الإقليمي.
كما تلقي الضوء على الانقسام داخل الصف الإيراني بين التقليديين، الذين يؤيدون عدم التفاوض لحين انقضاء أربع سنوات قادمة من حكم ترامب، والبراغماتيين، الذين يفضلون مساراً تفاوضياً يمكن أن يجلب مكاسب اقتصادية، والمتطرفين الذين يدعون إلى تصعيد الردع النووي.
وتؤكد كذلك إلى أن الخيارات الإيرانية في مواجهة عودة ترامب ستكون محفوفة بالمخاطر، إذ تواجه إيران معضلة بين استراتيجيات مقاومة الضغط الأميركي وبين السعي للتفاوض لتحقيق الاستقرار. كما تشير ا إلى أن التركيز على الردع النووي كحلٍّ للأزمات الأمنية الإيرانية المتصاعدة قد يكون غير فعّال ويزيد من عزلة إيران الدولية، لا سيما مع احتمالية تصعيد إسرائيلي قوي ضدها. في الوقت نفسه، قد يدفع الدعم الأميركي لإسرائيل إيران إلى تبني مواقف أكثر تحالفاً مع القوى البديلة، مما يعقّد الجهود الدبلوماسية المستقبلية.
وفي خضم الاحداث المتصاعدة وفي مقدمتها الحرب في غزة وجنوب لبنان والقصف المتبادل مع إسرائيل وتوتر العلاقات مع أوروبا لا يزال هناك عدم القدرة على التنبؤ العميق فيما يتعلق بسياسات إدارة ترامب الجديدة تجاه إيران.
إذ إن عودة ترامب إلى منصبه، والذي اشتهر بنهجه غير التقليدي في التعامل مع السياسة الخارجية، قد تضيف طبقة إضافية من عدم اليقين، حيث قد ينحرف نهج إدارته تجاه إيران بشكل كبير عن المعايير الراسخة. وكما هو الوضع الآن، فإن اليقين الوحيد في هذه الشبكة المعقدة من العلاقات، هو عدم اليقين المحيط بالمسار المستقبلي للسياسة الأمريكية تحت قيادة ترامب المحتملة.
علينا بحسب مركز أمد للدراسات ألا ننسى بأنّه من الممكن جداً أن تسعى إدارة بايدن الحالية إلى استغلال فرصة الصراع الإسرائيلي الإيراني وتتدخل في الحرب بشكل مباشر عبر استهداف الأراضي الإيرانية وذلك بهدف ترك حمل ثقيل لإدارة ترامب القادمة.
ومن المهم الإشارة إلي أن إن موقف إيران المعلن تجاه الانتخابات الأمريكية الأخيرة يسلط الضوء على التفاعل المعقد بين التفضيلات الاستراتيجية والالتزامات الإيديولوجية، وخاصة في ردها على الإدارة الأمريكية المتغيرة.
وعند مراقبة الانتخابات، أشارت بعض العلامات في البداية إلى أن إيران ربما كانت تأمل في فوز ديمقراطي بقيادة كامالا هاريس. نشأ هذا التفضيل من مسار تفاوضي أسهل تاريخيًا مع الديمقراطيين، على الرغم من الانتقادات التي وجهتها إيران لإدارة بايدن، بما في ذلك دعم الديمقراطيين لإسرائيل في الإبادة الجماعية ضد غزة والاعتداءات على لبنان.
ومع ذلك، في أعقاب فوز ترامب غير المتوقع، قلل المسؤولون الإيرانيون علنًا من أهمية القيادة الأمريكية لمسار السياسة الخارجية الإيرانية، حيث أكدت شخصيات رئيسية إيرانية أن الحزبين الجمهوري والديمقراطي يشتركان في موقف عدائي تجاه إيران.
وقد تردد صدى هذا السرد بقوة من قبل شخصيات مثل قائد الحرس الثوري حسين سلامي والمتحدثة باسم الحكومة الإيرانية فاطمة مهاجراني.
ولكن وراء هذه التصريحات الحازمة تكمن نغمة دبلوماسية خفية تشير إلى اهتمام إيران باستقرار العلاقات مع إدارة ترامب القادمة. وتكشف التصريحات الصادرة عن وزارة الخارجية الإيرانية عن نهج دقيق يهدف إلى خفض التصعيد.
حيث قال وزير الخارجية عباس عراقجي بأن إيران لا ترغب بامتلاك أسلحة نووية، ومؤكدا على الطبيعة المتبادلة لبناء الثقة بين طهران وواشنطن.
كما رفض عراقجي بشدة الاتهامات الأميركية بشأن مؤامرة اغتيال مزعومة ضد دونالد ترامب، ووصفها بأنها افتراءات.
وفي بيان دقيق مماثل، اقترح المتحدث باسم وزارة الخارجية إسماعيل بقائي أن الانتخابات الأميركية تمثل فرصة لإعادة تقييم نقدي للسياسات الأميركية السابقة، ملمحاً إلى انفتاح إيران على إعادة معايرة العلاقات إذا تم اتخاذ إيماءات متبادلة.
ولكن غاب عن هذه المبادرات الدبلوماسية أي تعليق من المرشد الأعلى الإيراني آية الله علي خامنئي فيما يتصل بعودة ترامب إلى السلطة، وهو الصمت الذي يؤكد التناقض الاستراتيجي الذي يلعب دوراً في نهج إيران.
والتأمل في تصريحات خامنئي السابقة خلال ولاية ترامب الأولى يقدم لنا نظرة ثاقبة إلى التحفظات الإيرانية الدائمة. والجدير بالذكر أن خامنئي كان قد صرح في وقت سابق بأنه حتى لو تفاوضت إيران مع الولايات المتحدة، فإنها لن تفعل ذلك تحت قيادة ترامب.
وقد تعزز هذا الموقف في عام 2019 عندما رفض خامنئي بشكل مباشر مبادرة دبلوماسية من ترامب قدمها رئيس الوزراء الياباني آنذاك شينزو آبي. وكان رفض خامنئي الصريح حتى لتلقي رسالة من ترامب سبباً في إغلاق جهود الوساطة اليابانية بشكل فعال، وأكد على تصور إيران لترامب باعتباره نظيراً غير جدير بالثقة.
وفي هذا السياق، يبدو موقف إيران مزيجاً من الانفتاح البراجماتي الذي يخففه انعدام الثقة العميق الجذور. في حين تشير إيران إلى اهتمامها بتخفيف حدة العداء مع واشنطن، فإنها تظل حذرة، وتتذكر الطبيعة المتقلبة لسياسات ترامب السابقة.
ويوضح هذا النهج المزدوج ــ التحدي العلني الذي يخففه الدبلوماسية الحذرة ــ الاستراتيجية الإيرانية المدروسة بعناية، والتي تسعى إلى التنقل عبر المشهد المعقد وغير المتوقع في كثير من الأحيان للعلاقات بين الولايات المتحدة وإيران، وخاصة في مواجهة التحدي المتجدد المتمثل في التعامل مع إدارة ترامب المألوفة ولكن غير المتوقعة.
في ولايته الرئاسية الأولى، اتسم نهج دونالد ترامب تجاه السياسات والعلاقات الرئيسية في الشرق الأوسط مع إيران بالتأخير المحسوب بدلاً من العمل الفوري الجذري. فقد امتنع في البداية عن الانسحاب من الاتفاق النووي الإيراني، لمدة 18 شهرًا تقريبًا.
وجاءت القرارات الكبرى مثل الأمر باغتيال الجنرال قاسم سليماني أو نقل السفارة الأمريكية إلى القدس في وقت لاحق، بعد تحول تدريجي في فريق السياسة الخارجية لإدارته، ولا سيما مع وصول مايك بومبيو وجون بولتون، اللذين أثرا على موقف أكثر تشددًا له.
خلال هذه الفترة، عدلت طهران استراتيجيتها، حيث تبنى المرشد الأعلى آية الله علي خامنئي مبدأ “لا حرب، لا مفاوضات”، مؤكداً على مقاومة إيران للصراع المباشر ورفضها إعادة التفاوض على الاتفاق النووي بشروط الولايات المتحدة.
وعلى الرغم من التوترات المتزايدة، بما في ذلك اغتيال سليماني، وإسقاط طائرة أمريكية بدون طيار، والهجمات (غير معروفة المصدر) على البنية التحتية النفطية السعودية، لم يتحرك أي من الجانبين نحو حرب شاملة. لقد فشلت جهود الوساطة الخارجية في تحقيق أي إعادة تفاوض على الاتفاق النووي، مما أبقى المنطقة في حالة حساسة من المواجهة المنضبطة.
في السنوات الأخيرة، حدث تحول كبير في الديناميكية الإقليمية، مع انخراط إيران وإسرائيل في مواجهات مباشرة، والخروج من العمليات في المساحات الرمادية إلى الأعمال العدائية العلنية. استهدفت كلا الطرفين أراضي الأخر في عروض علنية للقوة، مثل عمليات الصواريخ الإيرانية “الوعد الصادق” ضد إسرائيل والغارات الجوية الإسرائيلية على الدفاعات الجوية الإيرانية.
ومن الثابت التأكيد هنا إن الديناميكية المتكشفة بين الولايات المتحدة وإيران، وخاصة في ظل إدارة ترامب القادمة، تكشف عن مشهد إقليمي معقد وهش بشكل متزايد.
حيث تهدف استراتيجية “الضغط الأقصى” التي سينتهجها ترامب إلى إرغام إيران على تقديم تنازلات من خلال العقوبات المكثفة والعزلة الاقتصادية، وتجاوز التكاليف الباهظة للتدخل العسكري المباشر.
ومع ذلك، قد يؤدي هذا النهج إلى زعزعة استقرار التوترات بدلاً من تصعيدها، حيث تواجه إيران ضغوطًا متزايدة على المستوى الإقليمي والداخلي. كما تقدم الأجنحة السياسية الداخلية في إيران، التقليديون والبراغماتيون والمتطرفون، كل منها نهجًا متباينًا للعلاقات مع أمريكا، مما يسلط الضوء على معضلة طهران، ما إذا كانت تسعى إلى التقارب أو المقاومة.
يشير هذا الانقسام الداخلي، جنبًا إلى جنب مع استراتيجية ترامب الاقتصادية، إلى مستقبل محفوف بالمخاطر حيث يحمل أي مسار مخاطر كبيرة لطهران.
وعلاوة على ذلك، تعمل المواجهات المتصاعدة بين إيران وإسرائيل على تضخيم هذا الوضع الهش. وتؤكد التدابير الأمنية الإسرائيلية الأخيرة والهجمات المباشرة على المصالح الإيرانية على التحول الإقليمي حيث يتم استبدال التكتيكات السرية بشكل متزايد بالأعمال العدائية المفتوحة.
ولا يؤدي هذا التحول إلى تعقيد استجابة طهران فحسب، بل ويضع أيضًا ضغوطًا إضافية على خيارات السياسة الأمريكية، وخاصة إذا جددت إدارة ترامب الدعم القوي للأهداف العسكرية الإسرائيلية. والولايات المتحدة، في سعيها لتحقيق الاستقرار الإقليمي من خلال القوة، تخاطر بمزيد من الاستقطاب، مما يدفع إيران إلى التحالف بشكل أوثق مع القوى البديلة وتعقيد الدبلوماسية المستقبلية.