ممدوح إسماعيل يكتب: العالم السياسي العبقري الصامد
العنوان هو الحقيقة التي أتوقف بها مع شيخ الإسلام مصطفى صبري
قصة حياته فيها كفاح عظيم وعبر ودروس لشيوخ اليوم المتقوقعين والغارقين في فلسفة الرخص وأقل الشرين لعلهم يتعلمون منها
ولد الشيخ مصطفى صبري في توقاد بالأناضول عام 1869وحفظ القران في صغره ثم أكمل تعليمه في جامع السلطان محمد الفاتح وتم تعيينه مدرسا وكان أصغر مَنْ درَّس فيه سناً عام 1890،
ومن هناك ذاع صيته ولمع نجمه فأخذ يترقى في المراتب
إذ عيَّنه السلطان عبد الحميد عضواً في درسه السلطاني الخاص في عام 1898،
ثم مديراً للقلم السلطاني، وعضواً في لجنة تدقيق المؤلفات الشرعية، وأميناً لمكتبة قصر يلدز، وفيها قرأ على ما لا يحصى من نفائس كتب التراث ومخطوطاته.
بعد ذلك وفي عام 1904 استقال مصطفى صبري من بعض وظائفه وعاد إلى التدريس، فأمضى فيه حيناً من الزمن
إلى أن بدأت مرحلة جديدة في حياة مصطفى صبري فقد وجد أن الشيوخ متقوقعين متجمدين ومنعزلين عن الواقع
وان مجال السياسة تم الاستيلاء عليه تماما من العلمانيين وهم الذين يقودون البلاد
فبدأ خطوة تغيير كبيرة بجهاده السياسي بعد إعلان الدستور عام 1908
إذ نجح في دخول البرلمان (مجلس المبعوثان) نائباً عن دائرته (توقاد)،
وشغل منصباً مرموقاً في حزب الائتلاف والحرية ذي الجمهور العريض الذي واجه سياسة جمعية الاتحاد والترقي ذات النزعة القومية العنصرية
وشكل الشيخ مصطفى صبري تهديداً للساسة العلمانيين بفصحاته وعلمه وجهده، كما فضح الشيخ مصطفى صبري من جهة أخرى خفايا الاتحاديين وصِلاتهم باليهود والماسونية بخطبه الملتهبة في المجامع، وبمقالاته اللاذعة في مجلة بيان الحق التي رأس تحريرها،
وكان الاتحاديون قد أخذوا يشددون حملتهم على خصومهم وعلى رأسهم الشيخ مصطفى صبري،
ففر من اضطهادهم عام 1913 إلى مصر ثم أوربة متنقلاً بين عدد من بلدانها،
وتم اعتقاله في رومانيا بناء على طلب الاتحاديين وعاد إلى تركيا معتقلا
إلا أن الهزيمة في الحرب العالمية عجلت بالإفراج عنه
فقرر بصمود عجيب أن لا يترك الساحة للعلمانيين العنصريين فعاد إلى نشاطه العلمي الشرعي والسياسي
وفي عام 1919 تم تعيين الشيخ مصطفى صبري شيخاً للإسلام في الدولة العثمانية ومفتياً عامّاً لها، وعضواً مدى الحياة في مجلس الشيوخ (الأعيان) العثماني، وعضواً في دار الحكمة الإسلامية أكبر مجمع علمي إسلامي آنذاك، كما تولى منصب الصدر الأعظم (رئيس الوزراء) بالوكالة نيابة عن رئيس الوزراء الداماد فريد باشا أثناء مشاركته بأعمال مؤتمر الصلح في فرساي، ثم أعفي من مناصبه عدا مجلس الشيوخ
ومع اسقاط الكماليين للخلافة العثمانية تفاهمت واضطربت الأمور في تركيا بشدة
فلم يلن أو يسكت أو يتوافق مع الوضع الجديد تحت فلسفة نظرية الضرورة
بل هاجر بدينه وتنقل بين عدة بلدان مصر والحجاز ولم يستقر حتى وصل اليونان ولم يسكت هناك بل واصل نضاله أصدر مجلة الغد فتعقبه الاتاتوركيين فهاجر إلى مصر
وهنا بدأ يكتب تاريخ جديد
العجيب في كفاحه أنه واجه في مصر مشكلة فقد فوجئ أن فريق من المثقفين المصريين ومنهم اسلاميين معجبين بالتجربة الاتاتوركية!
فلم يسكت تحت الضرورة والظروف وخاض مرحلة جهاد جديدة بالبيان يفضح فيه علمانية الكماليين
واللافت أنه واجه حربا شديدا من فريق منهم
فلم يسكت وواصل كفاحه وكتب مقالا بدأه
(مظهراً العجب من أمر الناس الذين أصبح قائل الحق بينهم لا يقوله إلا همساً، بينما يجهر الفجرة بمعصيتهم، وينادون بالفاسد المستحيل، فيجدون آذاناً صاغية)
وأدرك الشيخ مصطفى صبري أن مصر خاصة وبلاد المسلمين تعرضت لغزو ثقافي
فقرر الجهاد بالفكر ومقاومة الدعوة إلى الإلحاد، ودعوة المسلمين إلى التمسّك بدينهم، وشريعتهم، والإيمان بالكتاب كله، دون تفريق بين دقيق وجليل، ورفض كل دعوة إلى التأويل وإلى تطوير الإسلام، تحت ستار ملاءمة ظروف الحال، ومسايرة ركب الحضارة، والتطور مع الزمن. ظهر هذا في مؤلفاته:
وأصدر كتابه (النكير على منكري النعمة من الدين والخلافة والأمة)،
وفيه بحث مسألة الخلافة من الناحية السياسية، وهاجم الكماليين، وحذر العالم الإسلامي عامة ومصر خاصة، منهم، وحذّر من شرورهم،
وذكر في كتابه كلمة لأحد غلاة الكماليين من الترك في أحد كتبه “إنا عزمنا على أن نأخذ كل ما عند الغربيين، حتى الالتهابات التي في رئاتهم، والنجاسات التي في أمعائهم”
قال الشيخ مصطفى صبري كلمات اهديها لشيوخ اليوم تكتب بحروف من ذهب:
(ليست من وظيفة العلماء محاباة العامة، ومجاراة الدهماء، بل وظيفتهم إطلاع الناس على حقائق الأمور،)
ودخل الشيخ مصطفى صبري في معركة مع الشيخ المراغي ومحمد فريد وجدي اللذين كانا يرون جواز ترجمة القرآن ذاته دعما للكماليين الذين فرضوا الصلاة بترجمة القران وكتب كتابه (بحث في ترجمة القرآن وأحكامها)
ودخل معركة مع الذين ينادون بالسفور وخلع الحجاب
وأصدر كتابه (قولي في المرأة، ومقارنته بأقوال مقلِّدة الغرب)،
وفيه حمل سيف الحق وسدّد طعناته عبر ردود قوية ومفحمة لأصحاب الدعوات المشبوهة التي جرّت الناس إلى مستنقعات التهتك في التبرج، والابتذال والسفور والاختلاط الداعر.
وأخر كتبه كتابه البديع: (موقف العقل والعلم والعالم من رب العالمين، وعباده المرسلين). وطبعه عام 1950 في أربعة مجلدات كبيرة، فقد احتوى خلاصة آراء الشيخ في السياسة، والاجتماع، والفلسفة، والفقه، كما احتوى معاركه الفكرية مع عدد من أعلام عصره، كالمراغي، ووجدي، العقاد، وهيكل وسواهم.
وهو من أعظم وأقوى كتب الشيخ مصطفى صبري فى مادته العلمية التى لم يسبقه فيها أحد
وقد ذكر الشيخ مصطفى صبري أنه ألّف هذا الكتاب، بعد ما رآه في تركيا من تحول شاذ من انصراف المتعلمين عن الدين، وما يراه في مصر من مثل ذاك الانصراف.
قال في مقدمته، مخاطباً روح أبيه كلمات فيها عبر ودروس لشيوخ اليوم فهل يتعلموا:
“لو رأيتني وأنا أكافح سياسة الظلم والهدم والفسوق والمروق في مجلس النواب، وفي الصحف والمجلات، قبل عهد المشيخة والنيابة وبعدهما، وأدافع عن دين الأمة وأخلاقها وآدابها وسائر مشخصاتها، وأقضي ثلث قرن في حياة الكفاح، معانياً في خلاله ألوان الشدائد والمصائب، ومغادراً المال والوطن مرتين في سبيل عدم مغادرة المبادئ، مع اعتقال فيما وقع بين الهجرتين، غير محسّ يوماً بالندامة على ما ضحيت به في هذه السبيل من حظوظ الدنيا ومرافقها- لأوليتني إعجابك ورضاك”.
توفى الشيخ مصطفى صبري ودفن في مصر عام 1954بعد حياة حافلة بالكفاح والدعوة والجهاد والعلم والفكر والصمود والصبر على الاعتقال والهجرة والمطاردة والمرض وشظف العيش وهو الذي تقلد أعلى المناصب
فكان رحمه الله يبيت جائعا ويقول رحمه الله:
(هذا خير من تأييد الظالمين))
فهل يتعلم شيوخ ولحى وعمائم اليوم كيفية الرجولة في حمل أمانة العلم بحق
رضى الله عن الشيخ مصطفى صبري وأسكنه فسيح جناته