من وحي الأيام: لماذا انحطت: «خير أمة».. وهل ترتفع كرة أخرى…؟ (٤)
محمد نعمان الدين الندوي
نشير -في هذه الحلقة- إلى بعض أسباب انحطاط الأمم:
سكوت أهل الرأي عن واجب النصيحة:
من القوانين الإلهية وسنن الله في الأمم -أيضًا- أنه إذا عم الفساد في الأمم، وانتشر البغي والطغيان لدى أولي الأمر، ولم يقم أهل الرأي بواجب النصيحة والتحذير، حل عقاب الله فيها، فقد أوجب الله على نفسه عقاب الأمم الطاغية الباغية، ثم لا يرتفع العقاب إلا بالإنابة إلى الله والتوبة النصوح، كما يروى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: «اللهم إنه لم ينزل بلاء إلا بذنب، ولم يرتفع إلا بتوبة»، وكما قال تعالى نفسه في القرآن الكريم: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ﴾ [الشورى: ٣٠].
الظلم والفساد:
كذلك من القوانين العامة في الأمم أن الظلم والبغي والفساد من أسباب انحطاط الأمم وضعفها وهلاكها، بل ورد في القرآن الكريم أن ذلك سبب لقلة المطر، وللقحط ولفساد الزرع وهلاك الحرث والنسل.
استبداد الأغنياء:
ومن هذه القوانين -أيضاً- أن الأمم تهلك لسيطرة أصحاب الأموال ورغبتهم الجامحة أن يفعلوا بأموالهم ما يشاءون، وقد ضرب الله مثلاً أمة شعيب إذ كانوا يستبيحون تنمية الثروة بكل الطرق الممكنة كالتطفيف في الكيل والميزان وبخس الناس أشياءهم، فكان شعيب عليه السلام ينهاهم عن ذلك كله، ويوصيهم باجتناب أكل أموال الناس بالباطل وقناعتهم بالحلال، وهم يقولون: إنهم أحرار في أموالهم يفعلون بها ما يشاءون: {قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ تَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ}. [هود: ۸۷]
تفرق الأمم شيعًا وأحزابًا:
كذلك من سنن الله في الأمم أنه إذا تفرقت الأمم شيعًا وأحزابًا يضرب بعضهم بعضًا، ويحارب بعضهم بعضًا، حق عليها الفناء، وإذا توحدوا وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر وتعاونوا وحمل كل عبئه وساعد الباقين على تحمل أعبائهم نجحوا وكونوا أمة واحدة.
هذه كانت نظرة عامة موجزة على مقومات لحياة الأمم وأسباب ضعفها وهلاكها، وتلك بعض قوانين الله في الأمم، أبانها القرآن الكريم والسنة الصحيحة، فمن اتبعها وعمل بها أمن الفناء، وضمن الرقي والبقاء، ومن تهاون فيها كان عرضة للضعف والفناء، وهذه القوانين دائمة لا تتغير- ولن تجد لسنة الله تبديلًا – كانت فيما مضى، ولا تزال باقية إلى اليوم، وستظل.
وأمتنا الإسلامية كانت مرفوعة الهامة، مصونة الكرامة ما دامت ملتزمة بأسباب الصعود والارتفاع، فلما تخلت عن التزاماتها انحطت وهبطت.
يقول أحمد أمين:
«لقد سار المسلمون الأولون على مقتضى السنن الإلهية في الأمم، ففازوا بنتيجتها، واتحدوا ولم يتفرقوا، وعدلوا ولم يظلموا، واتبعوا القوانين الاقتصادية في الشؤون المالية فنجحوا نجاحًا باهرًا، وفتحوا ما لم يكن في الحسبان، وهرع الناس إليهم من ظلم الفرس واليونان، وكانوا في كثير من المواقف يعينونهم على عدوهم، ويعرفونهم بمواضع الضعف عند حكامهم، كما فعل الإسبانيون في إسبانيا والأقباط بمصر، وليس يصلح المسلمون إلا بما صلح به أولهم» (٢).
أسباب أخرى لانحطاط الأمة
إلى ما ذكر من أسباب انحطاط الأمم، هناك – أيضًا – أسباب أخرى لانحطاط هذه الأمة، نوردها فيما يلي:
الأمة الإسلامية -اليوم- كثيرة بالأعداد البشرية أكثر من مليار مسلم، وغنية بالإمكانات المادية، والمعادن والمياه والمزارع والمواد الخام، وفقيرة في مجالات التقنية الحديثة وعلوم التكنولوجيا وصناعة السلاح، ولذلك فإن إنتاج الأمة -في جملته- لا يكفيه ولا يسد كل احتياجاتها، فيضطر كثير من دولها إلى الاقتراض من البنك الدولي، والمؤسسات الربوية الغربية، وتعتمد في اقتصادها -ونكاد نقول في حياتها- على الآخرين، الذين يوجهونها، وقد يسخرونها لخدمة أهدافهم ورعاية خطواتهم، وتنمية مصالحهم، وهذا العجز والضعف البادي على وجه أمتنا من أكبر الأسباب الداعية للتقهقر في ميدان الحياة والبعد عن مجال التنافس والتسابق مع الأمم الأخرى.
إن سنن الله الجارية في كونه لا تتخلف ولا تتبدل من أجل الناس أيًّا كانت ديانتهم، وقد جرت سنة الله بأن القاعدين لا مكان لهم في المقدمة، وأن الغافلين لا يقودون أحدًا، ولا يصنعون نصرًا، وأن الهزيمة الداخلية أقوى أثرًا وأشد ضررًا من الهزيمة الخارجية {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهم} [الرعد: (۱۱)]، ويكاد يستقر في قلوب بعض قادة الفكر والرأي أن اتباع غير سبيل المؤمنين، قد يؤدي إلى شيء من الحركة والحيوية في جسم الأمة الإسلامية، بعد أن أصابها الترهل والعجز، ومن ثم فقد عمل هؤلاء على تأييد كل عمل يقوم به الغربيون لمحو أثر التعاليم الإسلامية من حياة الشعوب، حتى إن كثيراً من أبناء الأمة بدأ يفقد هويته الإسلامية وتذوب شخصيته، فيظهر في جوهره غربيَّ الهوى والمزاج، وربما الثقافة واللسان، وفي مظهره شرقيٌ مسلم يعيش في ديار المسلمين، وهذا من أعظم الأخطار التي تواجه الأمة، فلم تلق الأمة من قبل خطرًا مساويًا أو فوريًّا لهذا الخطر، رغم مرور عواصف الصليبيين عليها من قبل، ورغم زلزال التتار الذي هدم بعض أركانها بعد الصليبيين، لأن هؤلاء كان خطرهم عسكريًّا محضًا، فلم تكن عندهم ثقافة يريدون غرسها، ولم تكن لديهم حضارة يودون نشرها، وإنما كانت لديهم قوة جامحة لم تستطع أن تخلع الإيمان من القلوب، وإن استطاعت أن تخرب الديار وتعيث في الأرض فسادًا وتنشر الهلاك في الوطن الإسلامي.
وبقيت قوة الإيمان تعلو في نفوس المؤمنين، وقوة الأبدان والسلاح والكراع تضعف عند الصليبيين ثم التتار، حتى تغلبت عليهما قوة الإيمان، فعاد الصليبيون من حيث جاءوا، ودخل التتار في الإسلام، وأصبحوا من جنوده العاملين، بعد أن دخل في قلوبهم الإيمان الذي كان السبب الأول في صمود المسلمين أمام هجوم الأعداء الماكرين.
وعرف الأعداء المعاصرون ذلك، فلم يجعلوا هدفهم: التغلب العسكري – وحده – على أمة الإسلام، بل ربما سبقه ولحقه التغلب الحضاري الذي يصنعونه ويعتقدونه في بلادهم، ويوجهونه إلى بلادنا الإسلامية في صورة غزو فكري واستعلاء أرضي، وتقدم علمي تقني مصحوب بمظاهر الحياة اليومية عندهم، وليس لهذا كله من هدف إلا الحيلولة بين المسلمين وإسلامهم ليسهل انقياده لهم ويسلم لهم بالتفوق المطلق ويقر أمامهم بالعجز التام، فيصبح تابعًا لهم، أو بوقًا من أبواقهم، وهذا ما وقع فيه بعض أصحاب الرأي والفكر في بلادنا، حتى تراهم يدافعون عن الصهيونية، ويمتدحون التوجهات الغربية، ويهاجمون تعاليم الإسلام، وكل مسلم متمسك بها، حريص على نشرها.
إن الأمة اليوم يجب أن تقف وقفة حازمة في وجه هذه الهجمة الشرسة، التي تحاول أن تنزع الإيمان من القلوب، حتى تحافظ على هويتها الإسلامية في كل مكان، وعلى العلماء والدعاة خاصة عبء القيام بأكبر الواجبات في هذا المجال، ليوقظوا الأمة من سباتها، ويعيدوا إليها قوتها المعنوية وقوتها المادية التي أمر الله بها في قوله: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ} [الأنفال: ٦٠].
وإذا كانت الأمة قد عجزت عن تحقيق القوة المادية نظرًا لتخلفها العلمي والتقني…، فما سبب تخلفها في حشد القوة المعنوية (قوة الإيمان) التي هي أساس لابد منه في مواجهة الأعداء والثبات أمام هجومهم الشرس الذي يهدف إلى سقوط الحصن المنيع الذي تحتمي به الأمة؟
إن الجماهير العريضة من المسلمين ما تزال فيهم غيرة على الدين ومحبة للتمسك به وإعلاء شأنه، وهي لا تحتاج في ذلك إلا إلى موجهين حكماء وإلى قادة أدلاء نصحاء، وهؤلاء – بحمد الله – موجودون في الأمة، فلماذا نترك لغيرنا الفرصة ليسيطر على عقول أبنائنا، ويغذي أفكارهم ويشوه دينهم ويزين دنياهم لهم (٣).
فالأمة الإسلامية تعيش انحطاطًا شاملاً، وهذا الانحطاط سيزول إذا ما حاولت الأمة الخروج منها والعودة إلى مقدمات عزها وشرفها، يقول أحد رواد نهضة الأمة والدعاة إلى رقيها الأستاذ عبد الرحمن الكواكبي (۱۲۷۱ – ۱۳۲۰ هـ):
« ينبغي لنا أن لا يهولنا ما ينبسط في جمعيتنا من تفاقم أسباب الضعف والفتور كيلا نيأس من روح الله، وأن لا نتوهم الإصابة في قول من قال: إننا أمة ميتة فلا ترجى حياتنا، كما لا إصابة في قول من قال: إذا نزل الضعف في دولة أو أمة لا يرتفع..، فهذه الرومان واليونان والأمريكان والطليان واليابان وغيرها كلها أمم أمثالنا، استرجعت نشأتها بعد تمام الضعف وفقد كل اللوازم الأدبية للحياة السياسية، بل ليس بيننا ولاسيما عرب الجزيرة منا، وبين أعظم الأمم الحية المعاصرة فرق سوى في العلم والأخلاق العالية، على أن مدة حضانة العلم عشرون عاماً فقط، ومدة حضانة الأخلاق أربعون سنة » (٤).
(يتبع)
الهوامش:
(١) فيض الخاطر لأحمد أمين: ١٠/ ٣٧- ٣٨.
(٢) فيض الخاطر – بتعديل -: ٩/ ٣٩.
(٣) الشيخ الدكتور جاسم بن مهلهل الياسين: مجلة: ” المجتمع ” الكويتية، العدد: ١٤٢٨ – ٣ / رمضان ١٤٢١ھ ۔
(٤) الأعمال الكاملة لعبد الرحمان الكواكبي، ص ٢٨٢، الطبعة الأولى: ١٩٩٥، بيروت، وهذه إشارة إلى صعوبة اكتساب الأخلاق قياسًا إلى تلقي العلوم.
(الاثنين: ٢٦ من رجب ١٤٤٦ھ = ٢٧ من يناير – كانون الثاني – ٢٠٢٥ م).