هذه فرص نجاح استراتيجية الشرع في توحيد الفصائل لبناء جيش سوري موحد
في 4 يناير الجاري ، بدأت وزارة الدفاع في حكومة تصريف الأعمال السورية عقد جلسات تشاورية مع قيادات الفصائل العسكرية المنتشرة في أنحاء سوريا، بهدف البدء في تنفيذ خطة الاندماج في إطار مؤسسة عسكرية جديدة.
وكان القائد العام للإدارة السورية الجديدة، أحمد الشرع، قد عقد اجتماعاً لافتاً مع عدد كبير من قادة الفصائل في أحد القصور الرئاسية بالعاصمة دمشق في 21 ديسمبر الماضي،
وبحسب البيانات الرسمية فقد وافق المجتمعون على حل فصائلهم والاندماج تحت مظلة وزارة الدفاع السورية. ومع ذلك؛ فقد وُصف هذا البيان بالتفاؤل الشديد بشأن فرص نجاح عملية الدمج المُزمعة، إذ لازالت تحديات عديدة تواجه هذا المشروع وتهدد فرص تحوله لواقع عملي.
وبحسب دراسة لمركز أمد للدراسات السياسية طرح تساؤل حول دمج فصائل إدلب و هل يمكن أن تتكرر التجربة؟ مشيرة إلي أنه ليست هذه المرة الأولى التي يتبنى فيها أحمد الشرع فكرة دمج الفصائل السورية، فثمة تجربة سابقة لديه في هذا الصدد.
فبعد أن اضطرت الفصائل السورية للانسحاب من حلب في نهاية عام 2016 وبدء سلسلة من الانهيارات أمام قوات الأسد مدعومة بالطيران الروسي، لجأت أغلبها إلى محافظة إدلب في أقصى الشمال الغربي لتركيا، ومن هناك بدأت جهود الشرع فيما أسماه وقتها “توحيد الجهد العسكري”.
ويبدو أن سنوات الاقتتال الداخلي التي سبقت الانكسار أمام قوات النظام قد ولدت ليه قناعة بخطورة استمرار هذه الحالة من التشظي، فعلى سبيل المثال؛ في الوقت الذي تدور فيه معارك ضارية في غرب حلب لمحاولة فك حصار القوات الحكومية المضروب عليها،
ووقعت حوادث اقتتال بين الفصائل وبعضها، مثل هجوم فصائل “حركة نور الدين الزنكي” و”كتائب أبو عمارة” في نوفمبر 2016 على مقاتلي “تجمع فاستقم كما أمرت”،
وفي الأثناء ذاتها، اندلعت اشتباكات بين فصائل ريف حماة وإدلب مع فصيل “جند الأقصى” المقرب من تنظيم الدولة “داعش بشكل دفع أحمد الشرع يتخذ قرارا في 2019 بتأسيس “غرفة عمليات الفتح المبين” لتكون مسؤولة عن تنسيق العمليات بين فصائل شمال غرب سوريا”.
، وفي منتصف عام 2020، اتخذ قرارا آخر بتوحيد الجهد العسكري، ومنع تشكيل أي فصيل أو غرفة عمليات أخرى في المناطق الواقعة تحت سيطرة غرفة عمليات الفتح المبين.
وفي 27 نوفمبر الماضي، ومع انطلاق عملية ردع العدوان، ظهر ما سُمِّى “إدارة العمليات العسكرية” لتضم كلًّا من هيئة تحرير الشام، وحركة أحرار الشام، والجبهة الوطنية للتحرير، ومجموعات من الحزب التركستاني.
وتشير خبرة توحيد فصائل إدلب وفقا لدراسة أمد بأن ذلك لم يكن سهلا ولم يحدث طوعا في جانب كبير منه، بل خاضت هيئة تحرير الشام بقيادة الشرع معارك ضارية مع العديد من الفصائل، لإجبارها على الانضواء تحت غرفة العمليات أو تفكيكها ونزع سلاحها.
ومن أبرز هذه الحوادث صراع الهيئة مع حركة أحرار الشام، إلى أن أجبرت من تبقى منها على الانضمام تحت قيادتها. وكذلك تنظيم “حراس الدين” الموالي لتنظيم القاعدة، والذي أنهت هيئة تحرير الشام تواجده في إدلب قسرا واعتقلت العديد من عناصره وقياداته.
كما تشير التجربة، إلى طبيعة شخصية أحمد الشرع نفسه، وإصراره الدائم على تنفيذ خططه، والمزاوجة في ذلك بين اللين والشدة، واستعداده لاستخدام أقصى درجات العنف أحيانا لتنفيذ ما يراه في مصلحة الثورة السورية، ويتهمه بعض خصومه، في المقابل، بالمركزية الشديدة في الإدارة وأن لديه نزعة تسلطية تعرفها الفصائل السورية وتعرف أن تعاملها معه لن يكون سهلا.
بالنظر إلى خريطة الفصائل التي حضرت، والتي لم تحضر، اجتماع ديسمبرمع الشرع، الذي أعلن فيه حل الفصائل، تظهر خريطة أولية لتلك الفصائل التي من المرجح أن تندمج دون صعوبات كبيرة، وتلك التي من المرجح أن يكون دمجها صعبا للغاية.
. بعض الفصائل المنضوية تحت قيادة الجيش الوطني السوري المدعوم من تركيا، وتحديدا الفيلق الثالث من الجيش الوطني، وهي: “فرقة المعتصم” بقيادة المعتصم عباس، و”التحرير والبناء” بقيادة أبو حاتم شقرا، و”الجبهة الشامية” بقيادة أبو العز سراقب.
فيما لم تحضر باقي القيادات الرئيسية للجيش الوطني السوري، وقد كانت هذه الفصائل تحديدا طيلة السنوات الماضية مشهورة بالتقارب مع هيئة تحرير الشام، ورفض تصاعد النفوذ التركي في المناطق المحررة من شمال حلب.
ومن المرجح أن لا ترحب بقية فصائل الجيش الوطني بالاندماج ما لم تحسم الإدارة الجديدة موقف المعارضة الكردية التي تسيطر على مناطق واسعة من شرق سوريا، حيث تمثل هاجسا رئيسيا للقيادة التركية، والتي من المرجح أن تدفع الفصائل المقربة منها للاحتفاظ باستقلالها حتى يتضح الموقف النهائي لقوات سوريا الديمقراطية “قسد”.
. كان لافتا جدا حضور قائد فصيل “جيش الإسلام” عصام بويضاني، والذي التقطت له صور وهو يعانق أحمد الشرع بحرارة كبيرة، ما اعتبره البعض نهاية لسنوات الصراع بين “جيش الإسلام” و”هيئة تحرير الشام” الذي بدأ في 2017 في قرى الغوطة الشرقية في دمشق (دوما وحرستا)،
وواستمر الصراع حتى بعد انسحابهم إلى إدلب. ومن المحتمل أيضا – ولكن بدرجة أقل – نجاح اندماج جيش الإسلام، نظرا لصعوبة احتفاظه بمقدرة تمويلية ولوجيستية تمكنه من الاستقلال بنفسه أو الدخول في مواجهة مع الإدارة الجديدة.
. كما حضر قادة بعض الفصائل الصغيرة من فصائل الجنوب السوري، بينهم القياديون علي باش، أبو علي مصطفى، محمود البردان أبو مرشد، مؤيد الأقرع وأبو حيان حيط، ومن المرجح أيضا أن توافق هذه الفصائل على الاندماج طوعا، باعتباره قد يوفر لها وضعية مؤسسية ومالية أفضل ضمن قوات الجيش الجديد.
فيما قاطعت هذه الاجتماعات قادة الفصائل الأشد قرباً من تركيا، ضمن الجيش الوطني، مثل قائد فرقة “العمشات” محمد الجاسم أبو عمشة، وقائد “الحمزات” سيف بولاد المعروف بسيف أبو بكر، وقائد فرقة “السلطان مراد” فهيم عيسى. ومن غير المرجح أن يحدث تغير في هذا الموقف في المدى القريب قبل أن تطمئن الإدارة التركية لحسم المسألة الكردية في سوريا.
ومن المهم ذكره أيضا؛ أن ثمة تاريخ مهم من المناوشات جرت بين هيئة تحرير الشام مع الجيش السوري الوطني قبل عملية ردع العدوان، حيث أرادت الهيئة إجبار فصائل الجيش الوطني على الاندماج ضمن غرفة العمليات التي كانت تقودها، وقد تدخل الجيش التركي لإجبار الهيئة على التراجع عن اقتحام مناطق سيطرة الجيش الوطني.
. كذلك تغيّب قائد “اللواء الثامن” أحمد العودة، وهذا اللواء يعمل في مناطق الجنوب السوري في درعا والسويداء، وقد كانت بداياته في صفوف المعارضة السورية ضمن ما كان يعرف بفصيل “شباب السنة”، ولاحقا بعد حصار طويل لمدينة درعا، اضطر “العودة” لإبرام اتفاق مع القوات الروسية بتسليم سلاحه الثقيل، وضم فصيله للفيلق الخامس الذي أسسته روسيا حينها، ليصبح اسمه “اللواء الثامن”.
وقد أشارت مصادر صحفية بأن غياب العودة، كان بسبب علاقاته الإقليمية بأطراف مثل الأردن والإمارات، التي لا تزال تأخذ موقفا سلبيا من الإدارة الجديدة.
كما سبق أن نشر موقع “ميدل إيست آي” أنه قبل وصول “الجولاني” إلى دمشق بعد انهيار قوات الأسد، رتّب سفيرا الأردن والإمارات لمقاتلين من فصائل الجنوب أن يأخذوا رئيس وزراء النظام السوري السابق، محمد الجلالي، من منزله إلى فندق “فور سيزونز” حيث كان من المقرر أن يسلم مؤسسات الدولة رسميًا إلى فصائل الجنوب،
لكن “الجلالي” رفض ذلك. وكشفت مصادر أخرى أن “الجولاني” دخل دمشق وسيطر على قصر الرئاسة بالقوة، فيما هددت تركيا فصائل درعا باستهدافهم بالطيران المسير.
ومع أن الجولاني قد التحق لاحقا بأحمد العودة ووعده الأخير شفهيا بالانضمام لغرفة العمليات العسكرية، لكن لا يبدو أن ذلك سيكون سهلا، خاصة في حالة تلقي “العودة” دعما خارجيا يمكنه من معارضة الإدارة الجديدة.
. وبطبيعة الحال؛ لم تحضر أيضا الفصائل المقربة من الولايات المتحدة الأمريكية، مثل قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، و”جيش سوريا الحرة” الذي يعمل في منطقة “التنف” في جنوب سوريا بالتنسيق مع القوات الأمريكية المتواجدة هناك، وسابقا كان يتلقى دعما من غرفة “الموك” التي كانت تديرها قوى إقليمية بالشراكة مع الولايات المتحدة.
ومع تعدد خريطة الفصائل وتضارب مصالحها وعلاقاتها الخارجية، فإن ثمة تحديات أخرى أمنية تتعلق بفقدان السيطرة على مناطق من سوريا، ومدى قدرة الإدارة الجديدة علي تهدئة الصراع الطائفي واستيعاب كافة المكونات السورية ضمن عقد اجتماعي جديد.
أول هذه التحديات بسط السيطرةحيث يرفع التحول السريع في مناطق النفوذ والسيطرة من حجم الاحتياجات الأمنية للسلطة الجديدة، فبعد أن كانت تسيطر على مساحة محدودة، أقل من مساحة الحدود الإدارية لمحافظة إدلب الصغيرة، باتت تسيطر بشكل مفاجئ على نحو 71% من إجمالي الأراضي السورية،
فيما ارتفعت مساحة المليشيات الكردية (قسد) إلى نحو 28% بعد دخولها عدة مناطق كان يسيطر عليها نظام بشار الأسد وخسارتها منبج وتل رفعت. ويرفع هذا التوسع من حجم الاحتياجات الأمنية المطلوبة، بشريا وماديا ولوجستيا.
التوافق حول شكل المؤسسة العسكرية الجديدة سيشكل تحديا هو الأخرخصوصا الخلافات حول وضع تصور للهيكل القيادي والإداري للمؤسسة العسكرية والأمنية التي سوف يجري تأسيسها، بل في التوافق على الاستراتيجية العليا التي تحدد التهديدات وطبيعة الأعداء الذين تعمل المؤسسة على مواجهتهم، في الداخل والخارج،
ومن التحديات كذلك ضبط حق استخدام العنف المشروع بيد الدولة وحدها ووفقا لتوجهات قيادتها السياسية، وهذا لن يكون سهلا في ظل حالة الفصائل التي اعتادت على المرونة والاستقلالية في عملها، ولم تعتد على أنماط العمل العسكري النظامي.
إلي جانب كافة التحديات التي سبق ذكرها، فثمة وقت طويل وعمليات تفاعلية معقدة ستحتاج إليها الفصائل حتى تستطيع الاندماج في بنية جيش نظامي، وفق عقيدة قتالية مشتركة وأنماط تدريب وتنسيق بين الوحدات والأفرع بشكل سلِس وفعال، ومن المحتمل أن يكتنف ذلك بروز العديد من الخلافات حول التفاصيل الإجرائية والمواقع القيادية.
الخلاصة؛ برغم ما تفرضه الأوضاع الجديدة في سوريا من ضرورة دمج الفصائل ضمن مؤسسة عسكرية نظامية، تملأ الفراغ الذي تركه انهيار قوات الأسد من جهة، وتضبط حالة التشظي في صفوف المعارضة من جهة أخرى، إلا أن ذلك لن يكون سهلا وسيمر بعدة منعطفات حرجة، سيكون أهمها ما يتعلق بالولاءات الخارجية لبعض الفصائل، وكذلك الولاءات المناطقية.
ومع أن السلوك القيادي لأحمد الشرع في سياقات مماثلة يشير إلى استعداده لاتخاذ كافة الخيارات من أجل تحقيق هدف ضبط الفصائل تحت قيادته، إلا أنه في المقابل أيضا فإن اتساع منطقة سيطرته الحالية لن يكون من السهل فيها استنساخ تجربة إدلب المحدودة، في ظل تنوع هائل في بنية المجتمع والدولة في سوريا.