بحوث ودراسات

أبو جرة سلطاني يكتب: آية أرعبتني!!

في كتاب الله آيات كثيرة يطلق عليها اسم (آيات الوعيد) وأغلبها موجه لغير المؤمنين يتوعدهم الله بها بما ينتظرهم يوم الحساب. وأقلها خطاب لأهل الإيمان فيها حث على استدراك أنفسهم قبل أن يأتي أحدهم الموت فيسأل الله الإمهال والتأخير إلى أجل قريب ليصدّق ويكن من الصالحين!!

 وليس قصدي في هذا المقال بسط حديث عن آيات الوعد والوعيد في القرآن الكريم وفي سنة المصطفي صلى الله عليه وسلم فقد سبقني المنذري إلى هذا الباب بكتابه القيم (الترغيب والترهيب من الحديث الشريف) تحدث فيه في أربعة أجزاء الوعد والوعيد فأجاد فيهما وأفاد وجمع فيهما ما تناقر فأوعى ولم يترك للمتأخرين كثير زاد يعتاشون منه. وهذه ليست وجهتي..

 فجهتي الخائفة إلى فقه آية يمر عليها علماء التفسير مرور الكرام معتقدين أنها نزلت في المنافقين الذين تقاعسوا عن الخروج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لقتال الروم في غزوة تبوت (آخر غزوات الرسول). وغفل أكثرهم عن عموم لفظها ودندن حول خصوص سببها. وكانوا – في ظروفهم – موفقين.

 فلما جاء طوفان الأقصى صار للخروج مفاهيم جديدة (وقد بان الخليط) ففسرها الطوفان تفسيرا عمليا مرعبا أدخل الأمة الإسلامية كلها – إلا قليلا – في مفهومها الواسع بذكر صفات من تخلف عن نصرة الحق إذا تبينت غاياته ورُفعت راياته وصارت البشرية كلها فسطاطين لا ثالث لهما:

 – فسطاط الذين قاموا فقالوا (وإنه لجهاد نصر أو استشهاد). وقدموا دماءهم الزكية في سبيل دينهم وأرضهم وعرضهم.. وتحملوا وحدة تسديد فاتورة الاستكبار العالمي الذي سد عليهم منافد الطعام والشراب والكساء والدواء. في الوقت الذي يدمر من سد على عدوهم مضيق مرور الأسلحة المدمرة للكيان الغاصب!! وإنها لمفارقة عجيبة!!

 – وفسطاط: {الذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا ۗ قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} آل عمران: 168. ولا يهم بعد ذلك من هم؟ ولا كيف قعدوا عن نصرة إخوانهم. ولا ما هي نياتهم في الصمت وإدارة الظهر لأشقائهم وهم يبادون بمختلف الأسلحة المحرمة فوق الترويع والتجويع والتهجير ونسف كل ما بتحرك (آخرها منع المصادر الضرورية للعيش في أدنى حدوده: الدقيق والأرز وحليب الأطفال..). فأي عالم هذا؟؟؟

 هؤلاء خسروا أنفسهم وخسروا دينهم وكرامتهم وإنسانيتهم.. بفقدانهم شرف الاستجابة لأمر الله بنصرة المستضعفين من إخوانهم الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله. وخسروا ضمائرهم بتخلفهم.. وخسروا انتماءهم للأمة بتخاذلهم.. وبتبريراتهم.. وبأعذارهم.. فهم آثمون مهما كانت الأعذار. لأنه لا عذر لأحد أمام ما يجري من جنون…

 والمخيف في هذه المسألة أمران:

 – الأول: أن الله كره خروج هؤلاء المثبطين. وكره مشاركتهم في نصرة دينه وفي نجدة عباده الصامدين لعلمه بما في صدور القاعدين من كره للإسلام ومن حقد على المقاومة ومن أمنيات خفية أن تنكسر وتنهزم وتستسلم.. وينتصر أعداء الإسلام على الصامدين!! وهذه قاصمة الظهر.

 – والثاني: أن الله لم يمنحهم شرف المشاركة في تحرير الضمير الإنساني العالمي بانتفاضتهم في وجه الطغيان. ولم يعطهم فرصة “تبييض قلوبهم” بإعلان براءتهم مما يجري وتعبيرهم عن ذلك باحتجاجات ومظاهرات ودعم مادي ومعنوي.. فثبطهم الله عن فعل شيء يشرفهم في الدنيا ويبيض وجوههم يوم تسود الوجوه فقعدوا مع الخوالف حتى يموتوا وهم قاعدون لأن الله كره انبعاثهم.

 وفقه هذه الآية أنه في طريق عودة المنتصرين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من تبوك سنة 09 هجرية، وهي الغزوة التي ظن المنافقون والذين في قلوبهم مرض أن الروم سيسحقون المسلمين فلا ينقلب منهم أحد حيا إلى المدينة ولا يبقى لهم ذكر ولا أثر!! فلما عادوا بنصر لم يكن متوقعا استقبل الطابور الخامس المنتصرين بالبشر والتهليل والتكبير.. فأمر الله جل جلاله رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يغير طرائق تعامله معهم منذ تلك اللحظة. ومن ذلك:

 – لا يصدق شيئا من أقوالهم.

 – لا يقبل أعذارهم.

 – لا يخرجوا معه لقتال.

 – لا يصلي في مساجدهم (مسجد ضرار).

 – لا يقبل منهم نصحا ولا عذرا.

 – لا يصلي على من مات منهم أبدا.

فنزلت آيات ختامية صارمة قاطعة لتقرير قاعدة ذهبية مفادها: أنه عندما تتمايز الصفوف يصبح الحياد خيانة. فمن كان مؤمنا لا يجوز له التخلف عن ولاء أمته ونصرة قضاياها العادلة. ومن كان غير ذلك فقد كره الله نصرته وكره انبعاثه وثبطه.. فمكانه مع القاعدين: {لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَن يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (44) إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (45) ۞ وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَٰكِن كَرِهَ اللَّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ (46) لَوْ خَرَجُوا فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} التوبة: 44\ 47.

 ما يهمنا في هذا السياق هو فقه الآية: 46 من هذه السورة التي تنطبق علينا اليوم إلا من نصر القضية العادلة بالمستطاع من المتاح له:

 – لو أردوا الخروج لأعدوا له عدة: ولكنهم لم يعدوا شيئا وليسوا راغبين في النصرة أصلا.

 – ولكن كره الله انبعاثهم: حتى لا يكون لهم شرف في معركة تبين خيطها الأبيض من خيطها الأسود.

 – فثبطهم: فتقاعسوا ومنعوا الراغبين في المشاركة من التحرك بذرائع واهية.

 – وقيل اقعدوا مع القاعدين: فهم قاعدون مع من لا يعنيهم أمر أمتهم. ولا يرون في القتال سوى وجهه الظاهر: الموت واليباب..

 النتيجة المنطقية لهذا التحليل أننا صرنا منهم بتوفر صفاتهم فينا؛ فما أكثر من سمعناه يقول عن المقاwمين: ورطوا شعبهم!! ألقوا بأنفسهم إلى التهلكة!! لو جاهدوا بالسنن لكفتهم!! لم يستشيرونا في ما أقدموا عليه. هم قاتلوا وحدهم (فربطوا عقدة بأيديهم وعليهم أن يفتحوها بأسنانهم!!).. الخ ما نسمع ونقرأ من تثبيط وإرجاف وحقد وتشفي.. هو خلاصة قوله تعالى: {الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا} إل عمران: 168.

 يعني أطيعونا بالقعود معنا وبالتزام الصمت وبعدم إزعاج المحتل وعدم استفزازه!! فإن بأسه شديد ومن ورائه أمريكا ومن دار في فلكها. وتلك قوة ردع لا قبل لنا بها!!

 لو اتبعنا هذا المنطق المتخاذل وأخذنا به لاتهمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بتوريط صحابته في حروب غير متكافئة منذ يوم بدر إلى غزوة الأحزاب!! ولرمينا جميع ثورات التحرير بالنزق والتهور!! وما تحررت فيتنام ولا كوبا ولا الجزائر ولا جنوب إفريقيا.. ولساد الطغاة الأرض أمام ركون المستضعفين بذريعة الخوف على أنفسنا من مصير الصامدين في وجه المحرقة.

 ما أرعبني في الآية: 46 من سورة التوبة هو أن الله إذا كره مشاركة قوم في بركات القتال ثبطهم عن الخروج فركنوا وقعدوا مع ذوي الأعذار يمنون أنفسهم بما كان يتذرع به المنافقون!! فإذا ماتوا وسألهم الله عن سبب قعودهم وعن سبب خذلال (جسدنا الواحد). ولماذا لم يتداعوا له بالحمى والسهر لم يجدوا سوى التذرع بطاعة سادتهم وكبراءهم:” قالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَٰكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ (67) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ” الأعراف: 67\68. وهو عذر مردود على كل من قعد عن نصرة إخوانه وهو لا يعلم أن الله كره نصرته لأنه لو حاول الانتصار لهم ما زادهم إلا خبالا لأنه من “حزب السماعين” للمثبطين الذين لا شغل لهم سوى قلب الأمور وتخويف الذين آمنوا. فإذا بلغت القلوب الحناجر:” لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِن قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّىٰ جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ ” التوبة: 48. فكره هؤلاء القاعدون انتصار الفئة القليلة الصابرة الثابتة على جحافل التثبيط والتtبيع والخذلان.. ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله.

وتسألونني: متى هو؟ أقول: هو قريب ولكنكم تستعجلون.

لك الله يا غزة فنصر الله قريب

أبو جرة سلطاني

سياسي جزائري، رئيس سابق لحركة مجتمع السلم

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى