لم تعد الأزمة النووية الإيرانية مجرد أزمة تخصيب أو تقنية تفاوضية بين إيران والولايات المتحدة، بل أصبحت تعبيراً عن تحول جيوستراتيجي عميق في توازنات الشرق الأوسط. منذ الجولة الخامسة من المحادثات التي جرت في روما، بوساطة عمانية بين واشنطن وطهران بوساطة عمانية، بدا المشهد وكأنه يسير على خيط رفيع بين تفاهم دبلوماسي هشّ وانفجار عسكري إقليمي واسع
في هذا السياق،وبحسب ورقة تحليلية لمركز أمد للدراسات السياسية تتقاطع ثلاث مسارات رئيسية: الأول تقوده إيران، صممة على تثبيت مشروعها النووي كأداة سيادية وردعية.
أما المسار الثاني فتقوده الولايات المتحدة، التي تسعى إلى منع إيران من امتلاك قدرة نووية دون الانزلاق إلى حرب.
فيما يقفز المسار الثالث، والأكثر اضطرابًا، تمثله إسرائيل، التي ترى في أي قدرة تخصيب إيرانية تهديدًا وجوديًا. هذه الديناميكيات المتشابكة تضع العالم أمام سيناريوهات متعددة تتراوح بين حلول توافقية، ومبادرات إقليمية، ومواجهات عسكرية محدودة..
ومن المعروف أن إيرا حققت طفرات في هذا المجال بشكل ظهر بقوة وجود برنامج تخصيب نشط داخل البلاد، حيث يرسل رسالة أن المعرفة التقنية والإنتاجية غير قابلة للإنكار أو الإلغاء.
بحيث لا تعلن إيران نيتها تطوير سلاح نووي لكنها لا تنفي قدرتها المحتملة في إطار ما يسمي الغموض الاستراتيجي .
وبالتالي، حين تصر إيران في المفاوضات على أن التخصيب داخل أراضيها “غير قابل للنقاش”، فهي لا تمارس تعنتًا دبلوماسيًا بقدر ما تدافع عن واحدة من الركائز الأخيرة المتبقية من منظومة الردع الاستراتيجي في وجه تفوق عسكري إسرائيلي كامل.
يجب هنا وفقا لدراسة أمد إدراك الفرق بين البرنامج النووي بصفته رمزية سيادية، وبين البرنامج النووي كوسيلة ردع. الأول يخاطب الداخل، ويرسّخ شرعية النظام. والثاني يضبط سلوك الخصوم في لحظات الأزمة.
على هذه الخلفية، يصبح من المفهوم لماذا يرفض الحرس الثوري، ومن خلفه المرشد والمنظومة الأمنية والسياسية الإيرانية، أي صيغة اتفاق تنص على نقل تخصيب اليورانيوم إلى منشآت خارجية، حتى لو كانت تحت إشراف إيراني-سعودي مشترك. فالنقل في هذا السياق لا يعتبر ترتيبا تقنيا، بل نزع أنياب استراتيجية.
التخصيب ..من التجميد المؤقت إلى الاتحاد الإقليمي
وفي هذا السياق تتعدد المبادرات المطروحة للخروج من مأزق التخصيب الإيراني خلال المفاوضات مع الولايات المتحدة، لكنها تتقاطع عند هدف مشترك: تأخير أو إبطاء قدرة إيران على تطوير برنامج نووي قابل للتحول العسكري، دون المساس الكامل بما تعتبره طهران “حقوقًا نووية سيادية”.
أبرز هذه المقترحات يتمثل في صيغة “أقل مقابل أقل”، والتي تتضمن وقف التخصيب عند نسبة 60% وإخراج مخزون اليورانيوم عالي التخصيب من إيران، مقابل رفع جزئي للعقوبات الاقتصادية والسماح بتصدير النفط ضمن سقف معين. هذا المقترح يهدف إلى خفض التوتر الفوري وكسب الوقت لمفاوضات أشمل لاحقاً.
هناك مقترح آخر يقوم على وقف كامل للتخصيب لمدة تتراوح بين سنة وثلاث سنوات، يتبعه برنامج تخصيب محدود في حدود اتفاق 2015 ، أي دون 5%. ورغم أن هذا المقترح قد يرضي الإدارة الأمريكية الحالية، إلا أن إيران تعتبره تقليصاً جوهرياً لسيادتها التقنية ولا يمكن تمريره داخليًا دون تكلفة سياسية.
أما المقترح الأكثر ابتكارًا فيكمن في إنشاء اتحاد إقليمي للتخصيب، تتوزع منشآته بين جزيرتين إحداهما إيرانية والأخرى سعودية، بإشراف مباشر من الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وإدارة مزدوجة. يُفترض أن هذا النموذج يقلل من احتمالات الانحراف العسكري،
بل يعيد تعريف البرنامج النووي بصفته مشروع تعاون إقليمي، وليس سلاحا استراتيجيا. وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي، رحّب بهذا المقترح من حيث المبدأ، لكنه شدد في الوقت ذاته على استمرار التخصيب داخل الأراضي الإيرانية، ما يعكس رفضًا ضمنيًا لفكرة الاستبدال الكامل.

وفي هذه الأجواء تبرز عدد من السيناريوهات الاستراتيجية لتسوية الصراع الأمريكي الايراني من إعلان المبادئ إلى المواجهة العسكرية
أول السيناريو الأول: إعلان مبادئ مؤقت هو السيناريو المرجّح في الأمد القريب، ويتضمن اتفاقًا أوليًا يتناول المبادئ الأساسية دون دخول في التفاصيل التقنية. يشمل وقف تخصيب بنسبة 60%، وبدء مشاورات فنية حول المشروع الإقليمي، وتخفيف محدود للعقوبات
هذا السيناريو يمنح جميع الأطراف مخرجًا دبلوماسيًا مؤقتًا يؤدي إلى استمرار المفاوضات للتوصل إلى اتفاق شامل. فترامب سيبدو كمن أوقف الانفجار، إيران كمن حافظت على الكرامة النووية، وإسرائيل تجد نفسها في وضع أكثر صعوبة لمواصلة الضغط.
أما السيناريو الثاني فيسير في إطار اتفاق شامل مرحلي فيتطلب هذا السيناريو إرادة سياسية قوية داخل واشنطن وطهران، ويتضمن خطوات مترابطة تشمل تحديد نسب التخصيب، المواقع، الرقابة، والعقوبات. لا يبدو أن هذا السيناريو واقعي قبل حدوث تحول داخلي كبير في إيران والولايات المتحدة.
فيما يقفز السيناريو الثالث والأكثر خطورة وهو هجوم عسكري إسرائيلي محدودترجحه جهات استخباراتية غربية بناء على رصد تحركات إسرائيلية، ويتضمن ضربات خاطفة لمواقع التخصيب الرئيسية بهدف إبطاء البرنامج لا تدميره.
لكن هذا السيناريو يحمل مخاطر عالية، من بينها رد فعل إيراني مباشر بصورة هجمات صاروخية ومسيرات مكثفة ضد إسرائيل، ما قد يؤدي إلى تصعيد غير محسوب
فيما يبقي السيناريو الرابع والذي يأتي في إطار فشل التفاوض وانهيار الوضع تدريجيا لاسيما أن استمرار التخصيب الإيراني، مع تصاعد العقوبات والضغط، وتزايد التهديدات الإسرائيلية، ما يخلق بيئة توتر مزمنة قد تندلع فيها المواجهة نتيجة خطأ أو سوء تقدير. هذا السيناريو هو الأخطر لأنه لا يتضمن قرارًا مركزيًا بالتصعيد، بل انزلاق تدريجي نحوه.
وبعد استعراض السيناريوهات المتوقعة للمفاوضات فلا يمكن هنا فهم الموقف التفاوضي الإيراني دون تحليل معادلة السلطة في الداخل. يتوزع صنع القرار النووي بين مؤسسة الرئاسة، ووزارة الخارجية، ومجلس الأمن القومي، لكن الكلمة النهائية تعود إلى المرشد الإيراني عبر الحرس الثوري والأجهزة الأمنية.
من منظور استراتيجي، يمثل التخصيب داخل الأراضي الإيرانية أحد أعمدة السيادة الوطنية بعد سنوات من الاستثمار التقني والسياسي. التخلي عنه، حتى لو لصالح مشروع إقليمي مشترك، قد يُنظر إليه داخليًا كتنازل مفرط، ما يعرض القيادة لضغط داخلي من التيار المتشدد.
لكن في المقابل، تواجه الحكومة أزمة اقتصادية خانقة، انهيار العملة، بطالة متفاقمة، وتآكل الطبقة الوسطى. هذه العوامل تدفع تيارات إصلاحية داخل النظام إلى الدفع باتجاه اتفاق جزئي يفتح المجال أمام تخفيف العقوبات وعودة التبادلات الاقتصادية. لذلك، يقف صانع القرار الإيراني أمام خيار مزدوج: الحفاظ على هيبة الردع الاستراتيجي، أو تجنب الانهيار الاجتماعي المتدرج.
في هذا السياق، يمكن فهم مرونة عراقجي تجاه المقترح العماني لا كتنازل، بل كإعادة صياغة للموقف الإيراني وفق مبدأ: “الحفاظ على الجوهر، والتفاوض على الشكل”. أي أن إيران مستعدة للتفاعل مع أي مبادرة لا تنتقص من مكانتها النووية،
لكنها أي إيران قد تناور بقبول رقابة دولية أكثر صرامة من بينها القبول بمفتشين أمريكيين للقيام بعمليات تفتيش دورية منتظمة في المنشآت النووية الإيرانية، مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية.
من ناحية أخري أظهرت المفاوضات الأخيرة بين طهران وواشنطن أن مجرد العودة إلى اتفاق 2015 لم تعد ممكنة، وأن العالم يواجه واقعًا نوويًا جديدًا في الشرق الأوسط.
ومن ثم فالتحدي اليوم لا يقتصر على منع إيران من الوصول إلى العتبة النووية، بل على إيجاد بنية أمنية إقليمية جديدة قادرة على دمج القدرات النووية السلمية ضمن ترتيبات تعاونية طويلة المدى.
وهنا يأتي المقترح العماني بتأسيس اتحاد إقليمي لتخصيب اليورانيوم، رغم تعقيداته، قد يكون النواة الأولى لهذا النظام. لكنه يحتاج إلى غطاء سياسي أمريكي، قبول خليجي حذر، وضبط ترامب لإسرائيل بعدم التهور والاقدام على مهاجمة المنشآت النووية الإيرانية قبل التوصل لاتفاق، وإيراني يجمع بين السيادة والانخراط البنّاء.
في نهاية المطاف، لا يملك أي طرف القدرة على فرض حل أحادي. الردع دون تفاهم سيؤدي إلى سباق تسلح، والتفاوض دون واقعية سينهار أمام أول أزمة. وحده الحل المركّب، الذي يوازن بين الردع، السيادة، والمراقبة المتبادلة، يمكن أن يشكل أساسًا لتسوية قابلة للاستمرار.
لذا فنحن أمام اختبار لإمكانية بناء شرق أوسط جديد لا على أنقاض الردع المتبادل، بل على أساس التخصيب المشترك كأداة تعاون لا كسلاح تهديد، وإلى ذلك الوقت لا يلوح في الأفق إلا إمكانية التوصل لاتفاق مؤقت على قاعدة الأقل مقابل الأقل.