لم يعد اقتصاد القرن الحادي والعشرين قائمًا فقط على النفط أو المعادن أو التجارة التقليدية، بل ظهر عنصر جديد لا يقل قيمة عن هذه الموارد: انتباه الإنسان.
ففي عالم يغمره سيل من المعلومات والرسائل الإعلانية، أصبح الوقت الذي يقضيه الفرد في التركيز على شاشة أو محتوى رقمي هو العملة الحقيقية. هذا ما يُعرف اليوم بـ اقتصاد الانتباه (Attention Economy)،
حيث تُباع العيون وتُشترى، وتُستثمر الثواني والدقائق كما لو كانت أصولًا مالية.
تقريرنا هذا يسلط الضوء على كيفية نشوء هذا الاقتصاد، قيمته الفعلية، آراء الخبراء بشأنه، ثم يتناول آثاره السلبية، وصولًا إلى مستقبل الإنسان في ظل هذه المعركة المستمرة على عقولنا.
ما هو اقتصاد الانتباه؟
يشير المفهوم إلى أن الانتباه البشري، كونه محدودًا، صار موردًا نادرًا تتنافس عليه المنصات الرقمية والإعلامية. وقد صاغ هذه الفكرة لأول مرة عالم النفس والاقتصاد هربرت سايمون عام 1971، حين قال: “وفرة المعلومات تولّد ندرة في الانتباه”.
ومع ظهور الإنترنت، ثم وسائل التواصل الاجتماعي، تطور هذا المفهوم من مجرد ملاحظة نظرية إلى أساس لاقتصاد عالمي ضخم. فالمحتوى لم يعد يُقاس بجودته فقط، بل بقدرته على جذب انتباه الأفراد لأطول فترة ممكنة.
كيف يعمل هذا الاقتصاد؟
آلية اقتصاد الانتباه بسيطة لكنها فعّالة:
1. المحتوى المجاني: المنصات تقدم خدمات مجانية، مثل فيسبوك أو يوتيوب أو تيك توك.
2. الوقت مقابل المال: بينما يظن المستخدم أنه يستفيد مجانًا، تقوم الشركات ببيع وقته وانتباهه للمعلنين.
3. الخوارزميات الجاذبة: الذكاء الاصطناعي يرشح المحتوى الأكثر قدرة على إبقاء المستخدم مشدودًا، بغض النظر عن قيمته أو مصداقيته.
4. تحويل الانتباه إلى أرباح: كل ثانية يقضيها المستخدم أمام الشاشة تتحول إلى قيمة مالية محددة في سوق الإعلانات.
القيمة الاقتصادية الحقيقية
تشير الأرقام إلى أن اقتصاد الانتباه لم يعد هامشيًا، بل صار يعادل في حجمه بعض القطاعات الكبرى:
بلغت عائدات الإعلانات الرقمية في عام 2023 حوالي 853 مليار دولار، مع توقعات بتجاوزها التريليون دولار بحلول 2025.
تستحوذ شركات مثل جوجل، ميتا، أمازون على النسبة الأكبر من هذه الإيرادات.
كل دقيقة يقضيها المستخدم على منصة رقمية تُترجم إلى ربح محدد، وقد صرحت شركة نتفليكس صراحة أن “منافسها الحقيقي هو النوم”، في إشارة إلى أن الوقت هو المورد الأساسي الذي تسعى لاحتكاره.
بهذا المعنى، صار الانتباه عملة صلبة في السوق العالمي، تُقاس وتُسعّر كما تُسعّر المعادن أو العملات.
آراء الخبراء والنقاد
أثار صعود هذا الاقتصاد نقاشات فكرية واسعة، حيث يرى بعض الخبراء أنه يمثل ثورة اقتصادية جديدة، بينما يحذر آخرون من آثاره المدمرة:
كريس هايز، الكاتب الأمريكي، يرى أن اقتصاد الانتباه يشبه الثورة الصناعية من حيث ضخامته، لكنه قد يقوض الديمقراطية عبر تحويل النقاش العام إلى سوق للجدل السطحي بدل الحوار العميق.
دان نيكسون في صحيفة فايننشال تايمز وصف الوضع الحالي بأنه “ركود معرفي”، حيث لم تعد عقولنا قادرة على التركيز أو الإبداع بسبب التشتت المستمر.
سكوت غالوي، أستاذ التسويق بجامعة نيويورك، يشدد على أن السيطرة على الانتباه هي مصدر القوة الحقيقية اليوم، أكثر من المنتجات ذاتها، وضرب مثالًا بشركات زادت قيمتها السوقية بفضل حملات ملفتة للانتباه دون تغيير في مبيعاتها.
الآثار السلبية لاقتصاد الانتباه
1. الصحة النفسية والإدمان
المنصات الرقمية تُصمم عمدًا لإبقاء المستخدم أسيرًا لها، عبر ما يُعرف بـ التصميم المسبب للإدمان. إشعارات، مقاطع قصيرة متتالية، محتوى لا ينتهي، كلها تحفّز الدماغ على إفراز الدوبامين باستمرار. النتيجة: إدمان مشابه لإدمان المقامرة أو المخدرات، يترجم إلى زيادة القلق، الاكتئاب، وانخفاض احترام الذات، خاصة بين الشباب والمراهقين.
2. تراجع التفكير العميق
التركيز على مقاطع قصيرة وسريعة يجعل عقولنا غير معتادة على التفكير الممتد أو التحليل المعقد. وهنا تظهر مخاوف من أن يفقد الجيل الجديد القدرة على ممارسة “العمل العميق” (Deep Work) الذي يتطلب صبرًا وتركيزًا طويلًا.
3. تضخيم الأخبار الكاذبة
الخوارزميات لا تميز بين الحقائق والأكاذيب، بل تكافئ المحتوى الأكثر جاذبية للانتباه. وهذا يعني أن الأخبار المضللة غالبًا ما تنتشر أسرع وأوسع من الأخبار الحقيقية، ما يشكل تهديدًا مباشرًا للمجتمعات والديمقراطيات.
4. عدم المساواة في الانتباه
تمامًا كما هناك تفاوت في الدخل، هناك أيضًا تفاوت في الانتباه. الإحصاءات تشير إلى أن 5% من المواقع تستحوذ على 80% من وقت المستخدمين، في حين يظل المحتوى الآخر شبه مهمل. هذا يخلق فجوة هائلة بين قلّة تملك القدرة على جذب الجماهير، وأغلبية لا يراها أحد.
5. سرقة الانتباه
يطلق النقاد على بعض الممارسات الرقمية اسم “سرقة الانتباه”، مثل الإعلانات المفروضة، النوافذ المنبثقة، أو الإشعارات المستمرة. هذه الأساليب تُعتبر تعديًا على حق الفرد في اختيار كيفية استخدام وقته وتركيزه.
الجانب المضيء: فرص وإيجابيات
ورغم كل هذه الانتقادات، لا يمكن إنكار أن اقتصاد الانتباه أوجد فرصًا جديدة:
1- إتاحة محتوى مجاني واسع النطاق للجميع.
2- فتح أبواب عمل لملايين المبدعين والمؤثرين حول العالم.
-دعم الاقتصاد الرقمي وإيجاد مصادر دخل جديدة للشركات الناشئة.
لكن يبقى السؤال: هل المنافع تعادل الخسائر الإنسانية؟
المستقبل: إلى أين نتجه؟
يتوقع الباحثون أن يزداد اقتصاد الانتباه قوة مع تطور الذكاء الاصطناعي والواقع الافتراضي. فالتقنيات الجديدة ستجعل المنافسة على عيوننا أكثر شراسة ودقة، عبر محتوى مخصص وفائق الجاذبية.
لكن هناك أصوات تدعو إلى إصلاحات عاجلة:
1. تشريعات قانونية تحد من الممارسات الاستغلالية.
2. ضرائب على الشركات التي تفرط في استهلاك انتباه المستخدمين.
3. تصميم بدائل أخلاقية للتكنولوجيا تركز على الجودة لا على الإدمان.
4. تثقيف المجتمع حول كيفية إدارة الوقت واستعادة السيطرة على التركيز.
لقد بات واضحًا أن الانتباه هو الذهب الجديد لعصرنا الرقمي. المعركة لم تعد حول الأرض أو النفط، بل حول أعيننا وعقولنا. وبينما تواصل الشركات حصد المليارات من وقتنا، يبقى التحدي الأكبر هو كيف نحافظ على إنسانيتنا وصحتنا النفسية وقدرتنا على التفكير العميق.
إنها معركة صامتة تدور في كل هاتف بين أيدينا، لكن نتائجها ستحدد شكل مجتمعاتنا واقتصادنا ومستقبلنا.
