بقلم: سعاد عبد الله
ككل سنة، تثور منصات التواصل الاجتماعي بجدل الاحتفال بالمولد النبوي، والاحتفال به ما يبن مانع ومجيز، فيجتر القوم الخلاف في المسألة، ولكل دليله واستدلاله، والغالب منتصر لمذهبه، حامل على المخالف.
وما يعنيني هنا ليس الحكم الراجح في مسألة فقهية خلافية، يُفترض أنها محكومة بقاعدة «لا إنكار في مسائل الخلاف»، و«المخالف في الفروع معذور»، بقدر ما يعنيني بواعث تخصيص هذه المسألة الفروعية بالجدل، من بين ستة أو سبعة آلاف مسألة خلافية في الفقه دون غيرها:
لماذا المولد؟ ولماذا اللغط حول هذه المسألة بالذات؟ ألأهميتها وأولويتها من جانب العقيدة؟ أم لقربها من الجناب النبوي الشريف؟ أم لعل هموم الأمة ومصائبها قد انزاحت واختفت حتى ما عاد فيها جائع ولا ضائع ولا معدم ولا مسكين ولا محبوس ولا مظلوم؟
لمَ هذا الدوام وهذه الهمة والجسارة على التصدي للخلاف في هذه المسألة الجزئية، رغم ما في النقاش فيها من خلل وتشويش وإظهار للجفاء لسيرة خاتم الرسل وحامل لواء الرحمة للعالمين؟ لماذا هذا التماهي مع حيثيات الاحتفاء بهذه المسألة ومثيلاتها كزكاة الفطر ورؤية الهلال وغيرها ما بين المحسن والمسيء؟؟
وفي وقت تخوض الفئة المستضعفة في الأقصى وغزة معركة الإسلام بالنيابة عن فئات المجادلين؟ وتتكالب على أمة الإسلام سهام الإفناء والتشريد والمعاناة والفقر من كل حدب وصوب؟
لماذا هذه النهضة الفتية المناهضة لشعائر الدين في مواسم بعينها، ومراسم تتلبس بروح التدين المثالي والدفاع عن أصالة الدين وتنقيته من البدع، بينما تغض الطرف عن أصل الدين وبقائه، ببقاء كليات أهم منها وأشد تأثيرا على الدين وأولها الجهاد؟
لما تتراءى للناظر هذه المعارك الطاحنة حول المولد والاحتفال به يخيل إليه أن هذا الترف الجدلي إنما لأن الإسلام قد انتصر وعم، وأن المقدسات قد صينت، وأن الأرواح قد حفظت، والدين في شماه وعلاه، وقد استفزت مثل هذه المسائل وجدان المسلمين حتى استنفروا لها في كل المنابر، وشددوا الحديث عنها في كل مكان.
ومهما قلنا عن تسييس محتمل، وتوظيف متعمد، وتوجيه إعلامي يعتلي منابر التأثير، فإن المسألة من وجهة نظري أبعد من كل هذا التوجيه المحتمل الواسع، الذي تخطى كل الحدود، وأثر في وجدان طوائف كثير من الأفراد من مختلف الفئات والطبقات، حتى ما يكاد يخلو بيت إلا ودخلته، ولا عامي أو فقيه إلا وأدلى بدلوه فيها؟
ربما لكون قضايا الجدل هذه تختص بأنها متكررة وموسمية وتدخل في مهمات يوميات جميع المسلمين، فمن ترك الجدل في إحداها لم تخطئه الأخرى، مما لا يعفي أحدا منا من تبرير موقفه منها ومن هذا الجدل.
فلماذا لا ينتهي هذا الجدل حولها رغم بسط القول فيها في كل مجالس العلم؟ وانتشار أدوات التحقيق والحسم؟ ولماذا لا ينحسر أو يخفت والأمة تواجه أقسى حرب تطهير ديني تتعرض لها في تاريخها المعاصر؟
الظاهرية الجدد
يفسر البعض اشتداد الاختلاف حول مثل هذه المسائل الفرعية في الفقه رغم ما تمر به أمتنا من معارك وجودية بأنه ميراث مدرسة الظاهر، التي تنظر لظواهر الأدلة دون الاهتمام بفقه الواقع، وتستغرق في ظواهر النصوص، غير مسترعية مقاصده العظيمة، ولا أسرار الشرع الحكيمة وأنها الدافع وراء اللجج الحاصل في قضايا خلافية فرعية دون النظر لكليات الدين وأسسه القويمة.
والحق أن أهل الظاهر إنما أنكروا القياس على النص، ومنعوا التخريج بغير دليل من كتاب أو سنة، أما هؤلاء فإنهم ينكرون الدليل نفسه، ويعتبرون أي قول بالمصلحة العامة من خلال النصوص ومقاصد الشريعة فيها مخالفا للدين وابتداعا فيه.
وإن كانت قضايا ثبوت الأهلة وزكاة الفطر ونحوها محلا للنظر الظاهري المكتفي بظواهر النصوص دون معانيها، فإن لحديث المولد جانبًا خاصًا ليس له علاقة بالنص وظاهر الدليل.
النبي الإنسان
إن أول ما يخطر ببالنا ونحن نستذكر مولد النبي الكريم ﷺ هو أول ما يذكره الداخلون الجدد للإسلام، إذا سألتهم: ما الذي أبهركم في الإسلام؟
سيجيبونك: إنها الأخلاق أخلاق النبي الكريم، النبي الإنسان الذي امتزج توافقه الطبعي بمبادئ الإسلام، وتوالفت تركيبته البشرية بسمو الرسالة ونبل مقاصدها، النبي الإنسان الذي يمازح الطفل الصغير، ويرحم الرجل الكبير، يحنو على الأعادي قبل الأولياء، حتى ليشفق ربه عليه أن يذهب نفسه حسرات عليهم، قال تعالى: ﴿لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾، وقال في معرض الامتنان على البشرية بإرساله لهم: ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾.
إنه النبي الإنسان الذي رق لرثاء أخت لأخيها المتطاول عليه، وكان قد أمر بقتله بعد أن أسره في غزوة بدر، فقال: «لو سمعت شعرها قبل أن أقتله لما قتلته».
النبي الرفيق الذي شهد خادمه الفتى برقة خلقه ونبل طبعه، انظر لوصف الخادم لسيده وسيد العالمين، والمرء من شأنه أن ينبسط أمام أهله وخدمه يقول أنس، رضي الله عنه،: (ما مسست ديباجًا ولا حريرًا ألين من كف رسول الله ﷺ ولا شممت رائحة قط أطيب من رائحة رسول الله ﷺ، ولقد خدمت رسول الله ﷺ عشر سنين فما قال لي قط: أف، ولا قال لشيء فعلته: لمَ فعلته؟ ولا لشيء لم أفعله: ألا فعلت كذا؟)، وهذه من أصدق الوثائق الدالة على رقيّ النبي ﷺ ونبل أخلاقه؛ ومن شأن صاحب أي داعية أن يُختبر فيها سرًا وعلانية، فإنه أولى الناس بها، فما حال من شهد له أعداؤه وخصومه بصدقه وصدق دعوته؟
وهذا أبو جهل كبير المشركين مخاطبا الوليد بن المغيرة من قومه وهو يعترف بهذا الخلق لعدوه النبي المرسل: «يا أبا عبد شمس، كنا نسميه في صباه الصادق الأمين، فلما تم عقله، وكمُل رشده نسميه الكذاب الخائن! والله إني لأعلم إنه لصادق».
انظر -أيها القارئ الفطن- إلى وصف أصحابه له:
ـ كان رسول الله ﷺ أحسن الناس وجهاً، وأحسن الناس خلقاً، ليس بالطويل البائن ولا بالقصير.
ـ كان خلقه القرآن، يغضب لغضبه، ويرضى لرضاه.
ـ كان رسول الله ﷺ فخماً مفخماً، يتلألأ وجهه تلألؤ القمر ليلة البدر.
ـ كان رسول الله ﷺ أحسن الناس قواماً، وأحسن الناس ريحاً، وألين الناس كفاً، وكانت لحيته قد ملأت من هاهنا إلى هاهنا، وأمر يديه على عارضيه.
ـ كان رسول الله ﷺ أجود الناس، وأشد حياء من العذراء في خدرها.
وكثير كثير من الآثار التي أحاطت بدقائق أوصافه الخلقية والخلقية مما يحيطك بكم الاهتمام ودقة الإحاطة من الأمة بهذا النبي الإنسان، حتى لم تترك صغيرة ولا كبيرة من أوصافه إلا ووثقته في أوسع وأدق سيرة ذاتية دونت لبشر في تاريخ البشرية، وهذا مكمن أهميتها.
ألا ترى معي ـأيها القارئ الكريمـ أنه ﷺ (كان) ثم هات أرفع الأوصاف البشرية، وأرقى الكمالات الخلقية، حتى أنك تقف مذهولا أمام هذا النبل الإنساني المتكامل في العلم والعمل والأخلاق وصنوف الرقي البشري الحضاري، إن نبيًا تمت له كل هذه الصفات لهو حقا قمة النبل البشري الذي يمكن أن يبلغه إنسان.
وتلكم الكمالات والأخلاق العالية الكريمة التي جبل الله نبيه ﷺ عليها وهداه الله لها فيما أوحى إليه، هي محتوى شريعته وعناصر الهوية التي أمرنا أن نقتدي به فيها، ففي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها أن النبي ﷺ قال: «إن الله تعالى لم يبعثني معنتاً ولا متعنتاً ولكن بعثني معلماً ميسراً».
وفي سنن أبي داود عن عبد الله بن يسر عنه ﷺ أنه قال: «إن الله تعالى جعلني عبداً كريماً، ولم يجعلني جباراً عنيداً»، وقال ﷺ: «بعثت بالحنيفية السمحة»، وقال ﷺ: «أنا أول الناس خروجاً إذا بعثوا، وأنا خطيبهم إذا وفدوا، وأنا مبشرهم إذا يئسوا، لواء الحمد يومئذ بيدي، وأنا أكرم ولد آدم على ربي ولا فخر».
سؤال الهوية سؤال الحضارة
وخلاصة القول:
إن الاختلاف حول الاحتفال بمولد هذا النبي البشري ذي الكمالات، ما كان ليحصل لو كنا نفهم سؤال الهوية الذي جاء مبشرًا به، والذي تولت الإجابة عنه سيرته العطرة ورسالته الإنسانية الكاملة التي رسمتها، هذا السؤال الذي نفتقده ونعيش من دونه اليوم، هو نفسه سؤال الحضارة التي كلف بنو البشر إقامتها على هذه الأرض.
وإن كانت الحضارة كما صورها ابن خلدون تفنّن في الترف وإحكام الصنائع، والوصول إلى قمّة العمران والتطوّر الثقافي والشخصي للمجتمع والدخول للرقي الاجتماعي الثابت، فإن الإسلام كما تصوره سيرة هذا النبي الإنسان هي جواب سؤال الحضارة والهوية.
وهو أيضا ما يجعل الحكم على الأفعال والتصرفات مناطا الشريعة وليس الفقه وحده، فليس كل حكم فقهي ممثلا للشريعة، وإنما يمثل الشريعة البناء الصحيح المخلص من كل الاختلافات والمحقق لمقاصدها الثابتة وغاياتها السامية وفق إطار الحكم الفقهي الدقيق، الذي ظل غالبا مترددا بين الاختلاف والإجماع، بحسب ما يفضي إليه من مناطات الأحكام وعللها.
هذا السؤال تمثله سيرته ﷺ والاقتناع بما تمثله تجربته البشرية التي اختير لها بأضفى الكمالات وأتمها؛ لا بمجرد الأحكام العملية الجدية التي تتجاهل القيم الروحية والمعاني الحضارية ولو كانت ترفا روحيا أو سلوكا حضاريا غير ذي صلة بصلاة وصيام وزكاة.
إن كل قضايا الاختلاف اليوم تتنزل عكسيًا مع سنته ﷺ لأننا نعيش الإسلام بأفعال وأقوال مجردة مفككة، وليس بهوية معرفية إنسانية متكاملة شاملة لكل مناحي الحياة والنشاط البشري، تتقبل هذا النتاج وتعطيه اتجاهه الطبيعي وفق منظومة الأخلاق والأحكام العامة. بكون الإسلام موجها أصلا لإعزاز «الإنسان النبي» المخلوق لتوحيد الله والقيام بوظيفة العمران البشري التي خلقه الله لأجلها؛ لأننا نمارس الإسلام كشعائر ومناسك وليس كهوية ذاتية مؤسسة ومنتجة للحضارة المناطة بها.
وهو أيضا نفسه سؤال الحضارة التي عجزنا حتى الآن عن استحضار أجوبة التوافق فيه بين المادي والمعنوي؛ لعجزنا عن إنتاج مكونات هذه الحضارة المادية التي تلتزم هوية الإنسان النبي المرسل كما أوضحتها الشريعة.
إن الاحتفال بالمولد النبوي الشريف هو إعادة البوصلة للطريق الذي سلكه النبي الكريم ﷺ لإنتاج الهوية الشرعية لإنسان الحضارة، الذي بعث لعمران الأرض وعبادة المنعم، فلا عبودية دون نبي ولا حضارة دون رسول.