في زمن تتشابك فيه الخيوط بين المال والسياسة، وتتسع فيه الفجوة بين الشعوب ومراكز القرار العالمي، يطل كتاب “الاقتصاد السياسي للعولمة” كعدسة مكبّرة تكشف ما وراء الشعارات البراقة عن “التكامل العالمي” و”التبادل الحر”. إنه عمل يزيح الستار عن الكواليس التي تُدار منها خريطة العالم الجديد، حيث تُصاغ القوانين وتُرسم الحدود بما يخدم قلة من القوى الكبرى، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية.
يحمل كتاب “الاقتصاد السياسي للعولمة”، الذي حرّره نُجِير روز وترجمه أحمد محمود، رؤية نقدية معمقة للعولمة باعتبارها ليست مجرد انفتاح اقتصادي وتبادل ثقافي، بل منظومة سياسية واقتصادية متكاملة، تقودها مراكز القوة العالمية، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، لترسيخ هيمنتها على مقدرات العالم.
الكتاب، الصادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، يتناول العولمة كعملية تتجاوز حدود الاقتصاد، لتمتد إلى صياغة السياسات، وإعادة تشكيل الثقافات، والتحكم في الموارد، عبر أدوات مثل التجارة الحرة، المؤسسات المالية الدولية، الاتفاقيات العابرة للحدود، والتحكم في تدفق المعلومات. ويكشف المؤلف أن العولمة في صورتها المعاصرة ليست ظاهرة تلقائية، بل مشروع سياسي اقتصادي تديره قوى بعينها لتحقيق مصالحها الإستراتيجية.
أبرز محاور الكتاب:
العولمة كأداة للهيمنة: تحليل لكيفية توظيف الولايات المتحدة النظام المالي العالمي لضمان تفوقها.
المؤسسات الدولية كأذرع سياسية: دراسة لدور البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية في فرض سياسات اقتصادية تخدم المراكز الرأسمالية الكبرى.
التأثير الثقافي والإعلامي: كيف يعيد الإعلام العالمي صياغة الوعي بما يتوافق مع مصالح العولمة النيوليبرالية.
النتائج على العالم الثالث: من تهميش الاقتصادات المحلية إلى تعميق التبعية الاقتصادية والسياسية.
أهمية الكتاب تكمن في أنه لا يكتفي بوصف الظاهرة، بل يربط بين البعد الاقتصادي للعولمة وأهدافها السياسية، مما يجعله مرجعًا مهمًا للباحثين وصانعي القرار والمهتمين بفهم طبيعة النظام العالمي المعاصر. كما أنه يطرح تساؤلات حادة حول مستقبل الدول النامية في ظل استمرار هذا النمط من العولمة، وإمكانية بناء بدائل أكثر عدالة وتوازنًا.
مقارنة مع كتب عربية مشابهة
الكتاب يلتقي فكريًا مع عدد من المؤلفات العربية التي تناولت العولمة بنظرة نقدية، مثل:
1- “العولمة والإمبريالية الأمريكية” للدكتور محمد عمارة، الذي يؤكد على أن العولمة في جوهرها استمرار للاستعمار بأدوات اقتصادية وثقافية.
2- “العولمة: تحديات وأخطار” للدكتور عبد الإله بلقزيز، حيث يربط بين العولمة والتفاوت الطبقي، ويحلل تأثيرها على الهوية الثقافية.
3- “العولمة: رؤية نقدية من الجنوب” للدكتور سمير أمين، الذي يشرح كيف تُعمّق العولمة التبعية وتعيد إنتاج الفقر في العالم الثالث.
وإذا كان كتاب “الاقتصاد السياسي للعولمة” يتميز بزخم الأرقام والتحليلات الاقتصادية الدقيقة القادمة من باحثين دوليين، فإن الكتب العربية غالبًا ما تميل إلى الجمع بين البعد الفكري والتحليل السياسي الثقافي، مما يمنح القارئ صورة متعددة الزوايا للظاهرة.
إن قراءة كتاب “الاقتصاد السياسي للعولمة” تضع القارئ أمام حقيقة صارخة: نحن نعيش في عالم تتحكم فيه قلة من القوى الكبرى، تصوغ السياسات الاقتصادية، وتعيد رسم الخرائط السياسية، وتفرض أنماط الاستهلاك والثقافة، وكأنها تكتب سيناريو كوكبنا بأكمله. العولمة هنا ليست مجرد تبادل تجاري أو انفتاح على العالم، بل هي منظومة محكمة لإعادة إنتاج السيطرة، عبر أدوات تبدو ناعمة في ظاهرها، لكنها تحمل في باطنها أثقال الهيمنة والهيمنة المضادة.
في السياق العربي، تأتي هذه الهيمنة مضاعفة، إذ يتقاطع الضغط الاقتصادي العالمي مع هشاشة البنى الاقتصادية المحلية، وضعف القرار السياسي المستقل، وتبعية ثقافية وإعلامية تعيد إنتاج نفس القيم التي تخدم العولمة. لذا، يصبح الوعي النقدي ضرورة وجودية، لا ترفًا فكريًا، من أجل حماية الهوية والمصالح الوطنية، وبناء نماذج تنمية بديلة تُعيد التوازن بين الانفتاح المشروع وحماية الذات.
العولمة ليست قدراً لا يُرد، لكنها في صورتها الحالية مشروع مُصمَّم بعناية لخدمة الأقوياء. والنجاة من آثارها السلبية تبدأ من فهمها… ثم من امتلاك الجرأة على صياغة مسار آخر.