أحمد سعد فتال
هناك موجة من الآراء والطموحات، تنتشر بين شعوبنا، تُعلي كثيراً من أمر المال والأعمال، وتحصر التقدم بالبناء والتكنولوجيا، متغافلة في ذلك عن الهدف الذي خلق الله البشر من أجله، والمنهج الذي يجب أن يتحرك من خلاله العباد في هذه الحياة الدنيا قبل الانتقال للرفيق الأعلى، فالله خلق البشر لعبادته، والعبادة ليست صلاةً وصياماً فحسب، بل العيش وفق أوامر الله، عبادةً واقتصاداً واجتماعاً وسياسةً وعلاقات دولية، وهذا ما نفتقده اليوم في كل بلاد المسلمين التي لا تُطبق الإسلام. أما وسائل العيش مثل المال والعمران والصناعة والتجارة، فقد سخّرها الله للناس لتعينهم على طاعته، فهي “وسائل” وليست هدفاً نهائياً أسمى.
وإنني أتعجّب حينما أرى مسلمين يحبون الله ورسوله، ويعظّمون الأنبياء، وهم بنفس الوقت يركّزون على المادة والاستهلاك، ويُعظّمون كل رئيس أو حاكم يُحقق لهم ذلك، غير مدركين لمنهج الأنبياء وخطيئة المجتمعات التي بُعثوا لها، فأقوام الأنبياء كانت لهم وفرة اقتصادية وتقدم صناعي، ومع ذلك فقد جاء رسل الله ونَعَوا عليهم أسلوب حياتهم، ودعوهم إلى عبادة الله، والتخلي عن المباهج والترف (التي يقع بها أو يدعوا لها مسلمون اليوم!).
فهذا نبي الله هود يقول لعاد -الذين كانوا يسكنون قُرب حضرموت في اليمن- (أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِیعٍ ءَایَةࣰ تَعْبَثُونَ * وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمۡ تَخْلُدُونَ * وَإِذَا بَطَشْتُم بَطَشْتُمۡ جَبَّارِینَ * فَٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَ وَأَطِیعُونِ) قال ابن كثير: “ذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا فِي غَايَةٍ مِنْ قُوَّةِ التَّرْكِيبِ، وَالْقُوَّةِ وَالْبَطْشِ الشَّدِيدِ، وَالطُّولِ الْمَدِيدِ، وَالْأَرْزَاقِ الدَّارَّةِ، وَالْأَمْوَالِ وَالْجَنَّاتِ وَالْعُيُونِ، وَالْأَبْنَاءِ وَالزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ، وَكَانُوا مَعَ ذَلِكَ يَعْبُدُونَ غَيْرَ اللَّهِ مَعَهُ. وفي قوله تعالى: (أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ) قال المفسّر: “أَيْ مَعْلَمًا بِنَاءً مَشْهُورًا، وَإِنَّمَا تَفْعَلُونَ ذَلِكَ عَبَثًا لَا لِلِاحْتِيَاجِ إِلَيْهِ؛ بَلْ لِمُجَرَّدِ اللَّعِبِ وَاللَّهْوِ وَإِظْهَارِ الْقُوَّةِ؛ وَلِهَذَا أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ نَبِيُّهُمْ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ تَضْيِيعٌ لِلزَّمَانِ وَإِتْعَابٌ لِلْأَبْدَانِ فِي غَيْرِ فَائِدَةٍ، وَاشْتِغَالٌ بِمَا لَا يُجْدِي فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ”.
وحتى لا أُطيل، فلن أتحدث عن ثمود، قوم صالح، وعن فرعون وزبانيته من قوم موسى، ومقدار القوة المادية والاقتصادية التي كانت لهم، إذ يمكن الرجوع لسورة الشعراء وتفسيرها للاستزادة، لكن أشير هنا إلى حال قريش، قوم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، فإن مكة كانت تتمتع بوفرة مالية وأمن ذاتي يشبه وضع دولة سويسرا اليوم، وكان أهلها يخدمون الحجاج ويساعدون المظلوم ويطعمون الجائعين، مع ذلك، انطلقت فيها دعوة الإسلام، وحارب رسول الله نظامَها دون هوادة حتى أسقطه في نهاية المطاف، وخاطب الله تعالى زعماء مكة: (أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ)، إذ نبّههم تعالى بأن توحيد الله وبناء الحياة وفق أوامره ونواهيه هو المكسب الحقيقي، وأنه مقدّم على أي عمل وهدف آخر مهما كان له من فوائد اقتصادية و”إنسانية”.
قد يُقال هنا: “إنك تتكلم بحديث بعيد عن الواقع وتضرب أمثلة مع فارق التشبيه، فأقوام الأنبياء كانوا على غير الإسلام، بينما الشعوب اليوم مسلمة”، والجواب، أن شعوبنا مسلمة ولا ريب، لكن يجب أن يكون الإسلام مهيمناً على حياتنا، فلا نكون على منهج الإسلام في جانب فقط، بينما نسير في الجوانب الأخرى على طريقة الكافرين والضّالّين دون أن نشعر. ويجب أن نتذكر هنا أن آية: (ٱلْیَوۡمَ أَكْمَلْتُ لَكُمۡ دِینَكُمۡ وَأَتْمَمْتُ عَلَیْكُمۡ نِعْمَتِی وَرَضِیتُ لَكُمُ ٱلْإِسْلَـٰمَ دِینَاً) نزلت بعد أن سيطر رسول الله على شبه الجزيرة العربية وبسط سلطان الإسلام فيها، وفي هذا إشارة إلى أن كمال الدين في واقع الحياة يكون عندما يُطبق بتمامه، لا حين يمارس المسلمون الشعائر والعبادات الفردية. دون أن ننسى المقولة العظيمة لأبي بكر رضي الله عنه، حيث قال بعدما رفض جزء من المرتدين دفع الزكاة: (إنَّهُ قدِ انقطعَ الوحيُ وتمَّ الدِّينُ.. أيَنقُصُ وأنا حيٌّ؟) رواه البيهقي. فقد اعتبر الصدّيق أن القَبول بتضييع حكم واحد من أحكام الإسلام نُقصاناً في الدين.
هل هذا يعني أن تطبيق الشريعة يعني الفقر والانحطاط والتخلف؟ على العكس، بل الإسلام يشجّع على عمارة الأرض والبراعة في العلوم والتقدم التكنولوجي، وحينما حكم المسلمون العالم كانوا قِبلة الأمم في العلم والمدنية، بشهادة المؤرخين الغربيين، مثل ول ديورانت، وزيغريد هونكه. كل ما نقوله هنا أن الإسلام بأحكامه وتشريعاته أولاً، ثم تأتي التكنولوجيا والعمران. أما التركيز على التطوّر الاقتصادي والتقني بعيداً عن منهج الله فهو انحراف كبير. يجب أن نفهم طبيعة ديننا، وأولوياتنا في الحياة، وسًلَّم اهتماماتنا، حتى لا تجرفنا المادية والاستهلاكية ونحن نظن أننا نُحسن صنعاً.
أحمد سعد/ ناشط سياسي.
منتدى قضايا الثورة