بعد نحو خمس سنوات من جائحة كوفيد-19، التي هزت أركان النظام الصحي العالمي وكشفت هشاشة التنسيق الدولي في الاستجابة، قررت الدول الأعضاء في منظمة الصحة العالمية إجراء تعديلات جوهرية على اللوائح الصحية الدولية (IHR) بهدف تعزيز الوقاية من الأوبئة المستقبلية وسرعة الاستجابة لها.
ومع ذلك، وفي خطوة أثارت جدلاً واسعًا، أعلنت الولايات المتحدة في 18 يوليو/تموز 2025 رفضها لهذه التعديلات، معتبرة إياها توسعًا غير مبرر في صلاحيات منظمة الصحة العالمية وتهديدًا للسيادة الوطنية.
التعديلات التي أُقرّت بإجماع الدول الأعضاء في مايو 2024 جاءت بعد مشاورات امتدت قرابة عامين، وشملت إدخال فئة جديدة تُعرف بـ”الطوارئ الوبائية”،
وهي مستوى أعلى وأكثر خطورة من حالة الطوارئ الصحية العالمية المتعارف عليها. الهدف منها هو منح المنظمة آليات تدخل أكثر فعالية وسرعة في حال تفشي أمراض ذات طابع عالمي، وتفعيل إجراءات فورية مثل تنسيق الاستجابة، وتوزيع الموارد، وإصدار التوصيات الإلزامية للدول.
لكن الولايات المتحدة رأت في ذلك خطوة تتجاوز الدور الفني للمنظمة. ففي بيان مشترك لوزير الخارجية ماركو روبيو ووزير الصحة والخدمات الإنسانية روبرت كينيدي جونيور، اعتُبرت التعديلات “غامضة وفضفاضة”،
وتُمنح المنظمة “صلاحيات غير مسبوقة في التدخل في السياسات الصحية الوطنية”، خاصة ما يتعلق بإعلان حالات الطوارئ، وتحديد من يحق له الوصول إلى اللقاحات والموارد الطبية.
وفق بيان الحكومة الأميركية، فإن التعديلات “تم تطويرها دون مساهمة عامة كافية”، ما يجعلها غير قابلة للقبول من منظور قانوني داخلي. كما أشار كينيدي، المعروف بمواقفه المنتقدة لبرامج اللقاحات، إلى أن منظمة الصحة العالمية “لم تتعلم من دروس الجائحة”، و”تسعى اليوم لفرض استجابة صحية عالمية تستند إلى اعتبارات سياسية لا عملية”.
في المقابل، تلقت التعديلات دعمًا واسعًا من دول أوروبا وأفريقيا وآسيا، التي رأت فيها ضرورة لحماية الدول الأقل قدرة في الأزمات. ووفق المفوضية الأوروبية، فإن 74% من الوفيات المبكرة خلال الموجة الأولى من كوفيد-19
وقعت في دول لم تتلقَ أي دعم طبي دولي في الوقت المناسب. كما أيدت دول مثل جنوب أفريقيا ونيجيريا التعديلات، معتبرة أن إشراف المنظمة على توزيع الموارد “يعزز العدالة الصحية ويمنع تكرار الاحتكار الذي مارسته الدول الغنية خلال الجائحة”.
وتُظهر المقارنة بين اللوائح القديمة والجديدة تحولًا كبيرًا في النهج. ففي السابق، كانت توصيات المنظمة استشارية فقط، ولا تملك أي صفة إلزامية. أما في التعديلات الجديدة، فباتت بعض القرارات الصادرة عنها – خصوصًا في حالات الطوارئ الوبائية – ملزمة قانونيًا، وتشمل إجراءات مثل الحجر الصحي، وإغلاق الحدود،
وتبادل البيانات الجينية للفيروسات دون تأخير. كما أن الآلية الجديدة للتوزيع العادل للموارد الصحية تُعد سابقة في تاريخ المنظمة، إذ يتم بموجبها تحديد احتياجات الدول الأقل قدرة وتوجيه الإمدادات إليها دون أن تبقى خاضعة لحسابات السوق وحدها، وفق منظمة الصحة العالمية.
يُضاف إلى ذلك أن التعديلات منحت المنظمة الحق في التدخل أو المطالبة بتقارير مستقلة في حال تقاعس الدول عن الإبلاغ أو التستر على تفشي وبائي، وهو ما اعتبرته الولايات المتحدة انتهاكًا لحقها في إدارة شؤونها الصحية وفق أولوياتها الوطنية، وفق بيان وزارة الخارجية الأميركية.
في تحليل صدر عن مجلة “JAMA” الطبية، أشار الباحث د. جايسون وينترز إلى أن “رفض الولايات المتحدة للتعديلات يُعد انسحابًا من موقع القيادة العالمية في مجال الصحة”، مضيفًا أن “لا دولة، حتى بحجم الولايات المتحدة، قادرة على مواجهة جائحة دون نظام تنسيق دولي محكم”.
بينما اعتبر مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية (CSIS) أن الخطوة تعكس قلقًا أميركيًا من تزايد نفوذ دول مثل الصين داخل المنظمة، واستغلال التعديلات لتوسيع التأثير الجيوسياسي تحت غطاء العمل الصحي.
على الصعيد الإحصائي، فإن التقارير السابقة لمنظمة الصحة العالمية تظهر أن أكثر من 85% من اللقاحات التي تم توزيعها عالميًا خلال عام 2021 ذهبت للدول الغنية.
بينما لم تحصل الدول الأقل دخلًا على ما يكفي لتغطية حتى العاملين في الخطوط الأمامية، وفق تقرير المنظمة حول العدالة اللقاحية لعام 2023. كما أظهرت دراسات نشرتها مجلة “ذا لانسيت” أن 63% من الدول النامية لم تتلقَ أي معدات حماية كافية خلال الأشهر الثلاثة الأولى من الجائحة، ما رفع معدل الوفيات بنسبة 40% مقارنة بالدول الأعلى دخلًا.
التعديلات إذًا، من منظور غالبية دول العالم، تمثل محاولة لإصلاح نظام صحي عالمي فشل سابقًا في توفير الحماية المتساوية. لكن من منظور الولايات المتحدة، فإن هذه التعديلات تفتح الباب لتنازل تدريجي عن السيادة، وتحول المنظمة من جهة استشارية إلى سلطة تنفيذية فوق الدول.
وسط هذا الجدل، تستعد منظمة الصحة العالمية للمضي قدمًا في مشروع اتفاقية دولية جديدة بشأن الوقاية من الأوبئة والاستجابة لها، يُتوقع اعتمادها بنهاية عام 2025. لكن في ظل رفض الولايات المتحدة التعديلات الحالية، تبقى فرص التوافق على اتفاق مستقبلي واسع محفوفة بالتحديات.
وربما تكمن المفارقة الكبرى في أن العالم، الذي توحد أمام فيروس لا يُرى بالعين، ينقسم اليوم حول كيفية الاستعداد له مجددًا.