عادت قضية تهجير الفلسطينيين من قطاع غزة إلى ليبيا إلى واجهة الجدل السياسي والإعلامي من جديد، عقب تسريبات إعلامية أميركية زعمت أن رئيس جهاز “الموساد” الإسرائيلي، ديفيد برنياع، أبلغ مبعوث البيت الأبيض ستيف ويتكوف، بانفتاح عدة دول من بينها ليبيا على استقبال لاجئين فلسطينيين ضمن خطة إسرائيلية تهدف لتفريغ القطاع جزئياً من سكانه.
وبرغم نفي رسمي سابق من الجانب الأميركي، والتزام السلطات الليبية الصمت، أعادت هذه التسريبات إشعال الشارع الليبي، الذي لا يزال يحمل في ذاكرته تداعيات لقاء وزيرة الخارجية المقالة نجلاء المنقوش مع نظيرها الإسرائيلي في روما عام 2023، وهي الحادثة التي فجّرت حينها موجة احتجاجات عارمة في طرابلس ومدن أخرى.
صمت رسمي وتحذيرات من تمرير “مخطط خطر”
وفق ما نقله موقع “أكسيوس” الأميركي، فإن برنياع أشار في اجتماعه مع المبعوث الأميركي في واشنطن، إلى “استعداد ليبيا، إلى جانب إثيوبيا وإندونيسيا، لاستقبال لاجئين فلسطينيين من غزة”، مقترحًا تقديم حوافز أميركية لتلك الدول لدعم الخطة.
وعلى الرغم من نفي السفارة الأميركية في ليبيا، ومواقف سابقة لوزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو بهذا الخصوص، فإن مراقبين يرون أن تكرار التسريبات يشي بوجود مشاورات سرية لم يتم الإعلان عنها رسميًا، سواء من طرف الحكومة الليبية أو شركاء خارجيين.
الكاتب الليبي محمد قشوط كتب عبر صفحته على “فيسبوك” محذّرًا من “ورطة وشيكة”، مؤكدًا أن “التواصل السري مع إسرائيل لم ينقطع”، ومطالبًا الليبيين بالتعامل مع المسألة “بكل جدية”.

احتقان شعبي ورفض قبلي وديني ووطني
الشارع الليبي، الذي يعاني أصلًا من أزمات معيشية وصراعات سياسية وانقسام حكومي بين شرقي البلاد وغربها، يبدو غير قابل لتقبّل أي مشروع يمس القضية الفلسطينية أو يشير إلى تطبيع غير معلن.
وفي هذا السياق، يقول الباحث السياسي محمد محفوظ إن “هذه التسريبات ربما تكون مجرد جسّ نبض من الجانب الإسرائيلي أو الأميركي، لكنها بكل تأكيد تتناقض مع المزاج الشعبي العام، الذي يعتبر تهجير الفلسطينيين إلى ليبيا خطًا أحمر دينيًا وأخلاقيًا ووطنيا”.
ويشير محفوظ إلى أن الرفض الإقليمي، وعلى رأسه المصري، يمثل حاجزًا إضافيًا أمام تنفيذ أي خطة لإعادة توطين الفلسطينيين خارج أراضيهم، مشيرًا إلى أن “مصر، ومنذ بداية الحرب في غزة، عبّرت مرارًا عن رفضها القاطع لأي محاولة لفرض تهجير قسري”.
دولة منقسمة… فمن أين تبدأ التوطين؟
وفي وقت تتنازع فيه سلطتان على الحكم داخل ليبيا، لا تبدو البيئة مهيأة على أي مستوى لاستقبال موجات لجوء جديدة، سواء على مستوى الاستقرار الأمني، أو البنية التحتية، أو حتى القبول الاجتماعي.
الباحث الليبي عبد الحكيم فنوش أكد أن “حكومة الوحدة في طرابلس لا تملك السيطرة الكاملة على أي مدينة، ولا تملك مؤسسات جاهزة أو أراضي لإعادة توطين لاجئين”، معتبرا أن التلويح باستعداد ليبي للتجاوب مع المشروع الإسرائيلي هو محاولة لكسب الوقت السياسي من طرف حكومة عبد الحميد الدبيبة.
ويضيف فنوش: “حتى لو أرادت حكومة طرابلس التورط في مثل هذا المشروع، فالشعب الليبي، والقوى السياسية والدينية والقبلية، لن تقبل، وستقاومه بشتى السبل”، مشيرًا إلى أن الملف برمّته قد يتحول إلى “صاعق تفجير داخلي”.
انفتاح أم خضوع؟
من جانبه، تساءل الأكاديمي الليبي أحمد العبود عن نوعية الحوافز التي قال “الموساد” إن إسرائيل طلبت من واشنطن تقديمها للدول المنفتحة على استضافة اللاجئين، مضيفًا أن “ليبيا في هذه المرحلة ضعيفة سياسيًا، وقد تكون عرضة لضغوط خارجية كبيرة تجعل بعض مسؤوليها يفتحون الأبواب لمثل هذه المخططات مقابل صفقات بقاء أو مكاسب مالية”.
في المقابل، يرى الباحث جلال حرشاوي أن “التسريبات الأخيرة تؤكد صحة كل ما تردّد في الأشهر الماضية”، مشيرًا إلى أن “الموساد لا يلجأ إلى تسريب كهذا إلا إذا كانت هناك خطوات حقيقية تجري خلف الكواليس”.
القضية لم تُغلق
رغم النفي الرسمي، لا يبدو أن الجدل حول ملف تهجير الفلسطينيين إلى ليبيا سينتهي قريبًا، خاصة مع استمرار الحرب في قطاع غزة، وتصاعد الضغوط الإسرائيلية لإعادة تشكيل الخريطة الديموغرافية للقطاع.
وليبيا، في ظل هشاشتها السياسية وانقسامها الداخلي، تبدو مهددة بأن تتحول إلى ساحة “ترانزيت إنساني” لصفقة لا يعرف أحد حدودها الحقيقية، ولا تبعاتها المستقبلية.
ويبقى السؤال مفتوحًا: هل تكون ليبيا جزءًا من حل إنساني أم ضحية لمخطط جيوسياسي جديد؟