بحوث ودراسات

جمال سلطان يكتب: إلى من يهمه الأمر في مصر

لا أكتب هذا الخطاب كمعارض، فليست هذه اللحظة هي المناسبة لذلك، بل أكتبه بقلب مفتوح كصحفي مصري، يراقب الأحداث، ويقرأ التاريخ، ويخاف على وطنه وشعبه وجيشه، ويقدم خطوطا عامة لأفكار قد تكون ـ أو يكون بعضها ـ مفيدا لفكر الدولة وتقديرات أجهزتها في تلك الأجواء المشحونة بالقلق والتوتر في المنطقة.

تأثير الثورة السورية على الجغرافيا السياسية في المنطقة

الأحداث الكبرى التي وقعت في سوريا مؤخرا، ونجاح ثورة شعبية مسلحة في أن تنزع حكما راسخا مثل حكم آل الأسد، يضرب بجذوره إلى حوالي 60 عاما، يقوم على مؤسسة عسكرية كبيرة، وشبكة أمنية واستخباراتية ضخمة جدا ومتشعبة ومسيطرة،

ودعم عسكري واستخباراتي إقليمي ودولي كبير، ومنظومة تحكم إعلامي وقضائي وفني وتعليمي وديني شاملة،

ومع ذلك انهار في النهاية، لم يسقط فقط، بل انهار، وتفكك بالكامل،

وأعتقد أن هذا الذي جرى ـ على مرأى ومسمع من العالم كله ـ يخضع لتقييمكم الآن،

ومعرفة تأثيره على الجغرافيا السياسية في المنطقة، والنظم الحاكمة فيها، وبشكل خاص تأثيره على بلدنا مصر.

إسرائيل تملأ الفراغ 

فور سقوط النظام السوري، استغلت جارة السوء «إسرائيل» حالة الفراغ الجديدة، وانهيار عصب السلطة القديمة، وانشغال القوة الجديدة المسيطرة على دمشق والمدن الأخرى،

لكي تقوم بتصفية مقدرات الجيش السوري بالكامل، كل شيء سوته بالتراب، ما ظلت سوريا تبنيه طوال أكثر من نصف قرن وتجدده من سلاح وطائرات ودبابات وصواريخ ومعامل وتجهيزات ومضادات وسفن،

كـل ذلك ذاب في يومين، تبخر، ولم يعد هناك ما يسمى الجيش في سوريا، وبالطبع كل ما يلحق به من أجهزة أمنية واستخباراتية،

كلُّ شيء تبخر، فضلا عن تبخر كل «المكملات التحسينية» مثل البرلمان وحزب البعث وإعلاميين النظام والفنانين المروجين له وعمائم الدين الملتفة حوله وغيرهم،

كـل ذلك تبخر، بعضهم اختفى وهرب وآخرون يقدمون اعتذاراتهم ويطلبون العفو.

مَن المسؤول عن انهيار “الدولة” في سوريا؟

منْ الطبيعي أن يطرح هنا السؤال، من المسؤول عن هذا كله؟ مـن المسؤول عن انهيار “الدولة” في سوريا؟

وَمن المسؤول عن انهيار الجيش في سوريا، من المسؤول عن ضياع وتبخر كل أملاك ومقدرات الجيش في سوريا؟

هل هم الشباب السوري الذي اضطر في النهاية إلى مقاومة جبروته بالسلاح؟

بالقطع لا ، المسؤول الأول هو رئيس الجمهورية بشار الأسد نفسه، وقادة جيشه ومخابراته، الذين سدوا كل نافذة أمل في الإصلاح أمام الناس،

وتصوروا أن استخدام السلاح لقهر شعبهم مع حصار هائل من منظومة قمع وسجون وتعذيب وترهيب وتشريد، أن ذلك سيحقق لدولتهم الأمان والاستقرار،

وأن الموجة السياسية في المنطقة في صالحهم ودول إقليمية أو دولية كبرى تساندهم فلا خوف ولا قلق،

وأن الرئيس وشقيقه وأبناء عمومته وأخواله وأصهاره أحكموا السيطرة على القرار العسكري والأمني والاقتصادي في سوريا،

أغراهم ذلك كله بالاستمرار في اختيار دموي وصفري، رغم أن التكلفة كانت بسيطة للغاية في البداية في 2011،

عندما كانت المطالب محدودة ببعض الإصلاحات وحرية التعبير وإعطاء مساحة كافية للنشاط السياسي وقدر من التعددية والتنوع للتنفيس عن الناس، فضل بشار الأسد الطريق الخطأ، السلاح والسجون والتعذيب والإذلال،

وقتل أطفال مدارس بالذخيرة الحية، فحدث ما حدث، وبدأت الأحداث بدعوات خجولة لحمل السلاح لمقاومة تغول النظام،

ثم اتسعت مع الوقت لتصل إلى انشقاقات في الجيش نفسه،

وتشكيل جيش سوري بديل للمعارضة، ثم دخول تنظيمات وتشكيلات من كل لون وكل طيف وكل دولة لتعبث في سوريا طولا وعرضا على النحو الذي جرى طوال 13 عاما مضت.

مصر ليست تونس؟!

قطعا بين الدول وتكوينها وظروفها الاجتماعية والسياسية اختلافات، فلا يوجد دولة تتطابق ظروفها مع أخرى،

لكن لا يمكن الاستنامة إلى ذلك، وتذكرون في 2011 عندما وقف صفوت الشريف -وزير مبارك- أمام الكاميرات يقول:

مصر ليست تونس، وليس على رأسنا بطحة، ثم جرى ما جرى، ولا يوجد مصري يحب هذا الوطن ويحرص عليه يرضى أن يحدث لدولته هذا الانهيار،

ولا أن تستباح أرضه، ولا أن ينهار جيشه، ولا أن تتبخر مقدراته، فهي أملاك الشعب في الأول والأخير، وكرامتها من كرامته الشخصية،

رغم أي مشاعر بالظلم أو الغضب أو الاختلاف، ولذلك يكون من مقتضى الحكمة والوطنية والولاء لهذا البلد العزيز على قلوبنا جميعا،

أن تتم مراجعة مجمل التجربة التي جرت من 2011 وحتى اليوم، من جميع جوانبها، والنظر بعمق وسعة أفق إلى مشكلات البلد،

وأسباب انقسامها، وتوترها الدائم والذي تفاقم مؤخرا كما تعلمون بسبب دخول الأزمات الاقتصادية العنيفة على خط الغضب،

مع إحساس ملايين المصريين بالظلم أو التهميش أو القمع، لأسباب متنوعة، باختصار، فالبلد معبأة بالغضب،

ومعبأة بوقود الاشتعال على أي حدث مفاجئ أو موقف لم يكن في الحسبان، وجاهزة للانفجار،

فتنتشر النار في كل مكان ، ولا يعرف أحد إلا الله إلى ماذا ستفضي.

أجيال ذاقت طعم الحرية

أضف لذلك شيئا مهما للغاية، أن الأجيال الجديدة ذاقت طعم الحرية ونشوتها في “الربيع العربي”،

وأصبح من المحال أن تنساها، في مصر أو غيرها، ويستحيل أن يتصرف حاكم اليوم متجاهلا هذه الحقيقة،

هَذه أجيال مختلفة عما سبق، ستظل قلقة ومقلقة، بحثا عن الإصلاح وعن مساحة للديمقراطية والتنفس والمشاركة في بلادها،

هذهِ أجيال يمكنك قمعها أمنيا لفترة من الزمن، لكن يستحيل أن تنزع من عقولها ومشاعرها الشوق إلى الحرية والعدالة والكرامة والديمقراطية التي ذاقت بعض رحيقها وتنسمت بعض عطرها،

وستظل تلك المشاعر تبحث عن فرصة لتحقيق أهدافها، وسيكون خطيرا جدا أن يوضع أمامها بصفة دائمة حائط مسدود، وأمل معدوم في الإصلاح.

لذلك، أتمنى أن تكون هناك رؤية وطنية شجاعة من حضراتكم، تقدم للقيادة السياسية،

ليس من باب مطالب قوة معارضة، وإنما مبادرة ذاتية من أجهزة الدولة، لتفريغ الاحتقان، ووقف الانقسام الوطني المخيف والمتعاظم،

وفتح طاقة أمل أمام الشباب للإصلاح، وتفريغ هذه السجون المشحونة بعشرات الآلاف من البشر بلا أي منطق ولا معنى،

سوى نشر الخوف أو القلق أو تصور أنها تؤدي إلى كسر الإرادة لدى نشطاء أو رموز سياسية،

ووقف تلك المحاكمات الهزلية التي تجري، وإلغاء ما صدر من أحكام في بعضها بقرارات جمهورية، وهي الأحكام التي لم يقتنع بها أحد،

ومعروف للكافة لماذا صدرت، وكيف صدرت، وهي التي أهانت القضاء المصري بصورة لم يسبق لها مثيل،

وسمحت للفساد أن يغرقه ويلوث سمعته، رغم ما فيه من شخصيات وافرة الوطنية والنقاء.

الهيمنة الشاملة على المؤسسة التشريعية

أيضا، لا تصلح تلك الهيمنة الشاملة على المؤسسة التشريعية، إنه سهل جدا أن تتم محاصصة المقاعد البرلمانية بين الأجهزة الأمنية،

لا يحتاج ذلك إلى قدرات خاصة ولا ذكاء استثنائي، لكن في النهاية سنكون أمام جهاز إداري وظيفي بحت لا صلة له بفكرة البرلمان،

ولا يستر عورة ولا يحمي نظاما، كما لم يحم مجلس الشعب السوري بشار الأسد، بل تبخر معه،

فوظيفة البرلمان ـ فوق التشريع والرقابة ـ امتصاص العنف والغضب من الشارع وتفريغه تحت القبة في مسارات مأمونة وسهل التعامل معها من قبل السلطة التنفيذية،

فإذا غاب البرلمان عمليا، كان العنف والغضب مهددا بانفلاته بصفة دائمة في الشارع.

أيضا، لا بد من إطلاق حرية تكوين الأحزاب، والعودة لشرط الإخطار فقط للموافقة،

ففكرة الأحزاب المعلبة أو المصنعة في مكاتب الأمن والمخابرات لا قيمة لها على الإطلاق سوى زيادة شحن الأجواء بالغضب والعنف المكنون

الذي يمكن أن ينفجر في أي لحظة لأن الناس ترى أن طريق التغيير أو الإصلاح مسدود،

هذه ليست أحزاب، هذه نوادي اجتماعية، أو شركات سمسرة سياسية لتقاسم وتوزيع الغنائم أو جزء منها، لا صلة لها بفكرة الحزب من أساسه،

وهي تسقط هيبة النظام واحترامه في عين الشعب وفي عين الخارج أيضا، الذي يعرف بداهة كل شيء عما يجري،

فالأحزاب السياسية القانونية والمسؤولة والتي تعمل بشفافية وتحت رقابة المؤسسات المدنية والقضائية للدولة،

هي التي تعزز من استقرار النظام نفسه، وتصرف الغضب والاحتقان في مسارات مأمونة،

والجمهوريات التي لا يوجد فيها أحزاب سياسية حقيقية، تبقى مثل العود الجاف، يبدو صلبا لكنه سهل الكسر والتفتت.

إنجاز الانتخابات المحلية والطلابية

ولا بد من إنجاز انتخابات المحليات المعلقة بلا أي سبب أو منطق، والانتخابات الطلابية في الجامعات،

وتسهيل الانتخابات النزيهة بصفة عامة، لأنها ترطب حياة المجتمع، وتخفف الاحتقانات، وتفيد الدولة في الرقابة على مسارب الفساد في أي مجال،

كما أنها تساهم في إثراء الحوار الوطني حول كل ما يدعم نهوض البلد وتنميتها، وتقديم أفكار خلاقة لا تقدر قيمتها بمال.

أيضا، لا بد من إعادة النظر في منظومة الإعلام، وتفكيك كل ما يتصل بالدولة فيها، وترك المجتمع يتنفس، تحت رقابة قانونية من الدولة،

فالصحافة الحرة، والإعلام الحر، بقدر ما يمثل من إزعاج شكلي، بقدر ما يمثل متنفسا للناس والمجتمع، يفرغ الغضب والعنف،

وقد أثبتت التجربة العملية لكم أن تأميم الإعلام ليس مفيدا أبدا، على الأقل في دنيا السماوات المفتوحة اليوم،

سواء عبر الستالايت، أو شبكات التواصل الاجتماعي التي ترهقكم بصفة مستمرة وتجبركم على توظيف لجان لمحاولة التصدي لها،

كما لا أظن أنه يخفى عليكم اليوم أن الوجوه الإعلامية التي توظفونها اليوم للترويج للسلطة والدفاع عن سياساتها أتت بنتائج عكسية،

وكانت سببا في زيادة الكراهية للنظام وليس القبول به، أي أنهم عبء على النظام وليسوا مساعدين.

نصائح المخلصين من أبناء الوطن

أيضا، لا يمكن تجاهل النصائح التي يوجهها مخلصون من أبناء الوطن، بعضهم قريبون من السلطة نفسها،

فضلا عن المؤسسات الدولية، عن ضرورة إفساح المجال أمام القطاع الخاص، الاقتصاد الحر، الرأسمالية الوطنية، لتنهض بالبلد، وتوسع نشاطها،

وتوسع الفرص أمام العمالة المصرية لتقليل البطالة، وتقليل المساحة التي تتمدد فيها مؤسسات غير مدنية،

في تركيا على سبيل المثال 85% من الوظائف وفرص العمل في الدولة تقدمها شركات القطاع الخاص،

وحتى الصناعات العسكرية التي أبهرت العالم تقوم بها شركات مدنية خاصة، وباقي الوظائف كثير منها للوظائف الإدارية والمؤسساتية للحكومة،

لا بد من التفكير في وقف هذا المسار المدمر للاقتصاد الوطني،

واستسهال تغطية الفشل بالمزيد من القروض الخارجية والداخلية التي تعمق مرض الدولة وتزيد الضغط على الشعب،

لأنكم تعرفون جيدا أن ذلك سيتجه بالبلد والشعب ـ ولو بعد حين ـ إلى هاوية سحيقة ومخيفة.

التحذير من السيناريو السوري خطأ فادح

تصور أن توجيه اللجان الالكترونية والإعلاميين التابعين للأجهزة بالصراخ الدائم للتحذير من السيناريو السوري

والتخويف مما جرى في سوريا أن ذلك يمكن أن يحقق أي نتيجة إيجابية هو ضلال سياسي، وخطأ فادح،

وعلاج مغشوش بلا أي أثر، وأساليب الستينات الدعائية وأدواتها فقدت صلاحيتها ولم تعد تلائم المجتمع البشري اليوم،

فالأجيال الجديدة بضغطة زر تكتشف الحقيقة بسهولة، علاج المرض أسلم من الاكتفاء بمحاولة تخدير المريض.

أرجو أن نفكر جميعا اليوم في وطننا، أن ننسى في تلك اللحظات المشحونة مواقعنا، معارض أو موالي، شعب أو جيش،

وأن نتدارس جميعا ما يحيط ببلادنا من مخاطر وشرور، وأن نبحث عن أفضل الحلول لأمان سفينة الوطن وشعبه وجيشه ومؤسساته ومقدراته.

جمال سلطان

باحث وكاتب صحفي مصري.. رئيس تحرير صحيفة المصريون

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights