اليوم تتذكر تركيا وشعبها واحدا من أسوأ أيامها على الإطلاق ، ففي مثل هذا اليوم 12 سبتمبر، أيلول عام 1980 ، تحركت الدبابات فجرا ، لتسيطر على مقر الإذاعة والتليفزيون ومركز البريد والاتصالات ومقر رئيس الحكومة والبرلمان ووزارة الداخلية ، وبعد ساعات من التحرك أعلن الجنرال كنعان إفرين رئيس أركان الجيش استيلاءه على السلطة في البلاد بانقلاب عسكري، أسماه «عملية العلم»، لأن العسكر الانقلابيين عادة يهربون من وصف «الانقلاب» العسكري، لأنه يحمل صفة الخيانة الوطنية والغدر والطمع غير المشروع في السلطة والثروة.
أعلن الجنرال كنعان حل الحكومة والبرلمان ووقف العمل بالدستور وحل الأحزاب القائمة بكاملها، وجاء في بيان الانقلاب الرسمي أن الغرض منه هو «حماية وحدة الوطن، وضمان الوحدة والتضامن الوطنيين، ومنع نشوب انقسام شعبي وحرب أهلية وشجار أخوي، وحماية الدولة وبسط سلطة وجودها، وإزالة الأسباب التي تحول دون عمل النظام الديمقراطي»، وهي عادة الانقلابات العسكرية في كل مكان، يقدم الجنرال الخائن نفسه بوصفه منقذ الوطن من الانقسام والتشرذم والضياع، وأنه قام بانقلابه العسكري كفاعل خير من أجل حماية الديمقراطية!! ومن أجل إقامة حياة ديمقراطية سليمة، قبل أن يكتشف الشعب أن الانقلاب هو الذي أخذه إلى الضياع والانحطاط والقمع والاستبداد والديكتاتورية، وهو الذي صادر حريته وكرامته وآدميته وحقوقه الإنسانية كافة.
عقب نجاح الانقلاب رحبت به العواصم الغربية بالكامل تقريبا، وعلق مسؤولون بالخارجية الأمريكية قائلين «لقد نجح شبابنا»، ووضعت مجلة التايم الأمريكية صورة قائد الانقلاب «كنعان إيفرين» على غلاف مجلتها وقدمته للعالم باعتباره موحد تركيا، كما وضعته مجلات أمريكية أخرى ـ مثل النيوزويك ـ على أغلفتها مع مقالات ترحب بتحرك الجنرالات في أنقره.
أطلق الجنرال «إيفرين»، قائد الانقلاب، حملة قمع دموية غير مسبوقة في تاريخ تركيا منذ تأسيس الجمهورية، فحُكم على 517 شخصاً من المعارضة بالإعدام نفذ بالفعل منها 50، واعتقل 650 ألف مواطن مات منهم تحت التعذيب الوحشي في السجون 171 شخصاً، ووُضع مليون و683 ألف مواطن تحت المراقبة الأمنية المشددة، فضلاً عن فصل 30 ألفاً من وظائفهم، وسحب الجنسية من 14 ألف مواطن آخرين، فضلا عن نفي بعض القادة السياسيين خارج البلاد، ورغم ما أبداه في البداية من زهد «مصطنع» في السلطة، وأنه لم يقبل بانقلابه من أجل السلطة، إلا أنه رشح نفسه بعد ذلك بعدة أشهر لرئاسة الدولة، ثم تولى بالفعل رئاسة الجمهورية حوالي ثماني سنوات.
ولما كان الانقلابيون في كل مكان يدركون أن ما فعلوه هو «خيانة وطنية» وجريمة في حق الوطن والدولة، فهم عادة يحرصون على تحصين أنفسهم في المستقبل من أي مساءلة أو محاكمة، وهو ما فعله الجنرال كنعان ايفرين والعصابة العسكرية التي شاركته الانقلاب والقتل والاستباحة، فقام العسكر في تركيا ـ بإشراف ايفرين ـ بتعديل الدستور، ووضعوا فيه نصا اشتهر باسم «المادة 15»، تنص على عدم جواز محاكمة قائد الانقلاب وشركاءه في مجلس الأمن القومي «مجلس الحكم والسلطة الحقيقي للبلاد» طوال حياتهم، غير أن حكومة حزب العدالة والتنمية بزعامة «رجب طيب اردوغان» بعد أن استقر بها الوضع، وعززت الحكم المدني للبلاد وقلصت نفوذ العسكر بذكاء شديد وصبر، أقدمت بعد تسع سنوات على عمل استفتاء شعبي في ذكرى نفس يوم الانقلاب 12 سبتمبر 2010، انتهى إلى إلغاء هذه المادة من الدستور، وبعد إقرار التعديل الدستوري الجديد توالت البلاغات إلى القضاء من الأشخاص الذين تعرضوا لجرائم كنعان ورفاقه، كما أعلن «اردوغان» أن الانقلابات العسكرية هي جرائم خيانة وطنية لا تسقط بالتقادم، وسيتم محاكمة كل العسكريين الذين تورطوا في أي انقلاب سابق في تركيا على أي حكومة منتخبة، باعتبارها جرائم في حق الوطن كله وليس في حق حزب من الأحزاب.
بعدها بعامين، عام 2012، انعقدت محاكمة الجنرالات الباقين على قيد الحياة من المجموعة التي خططت ونفذت انقلاب 1980، أمام محكمة مدنية، واستمرت المحاكمات سنتين، وفي العام 2014 صدرت الأحكام بالسجن المؤبد على قائد الانقلاب «كنعان ايفرين» رئيس هيئة الأركان الأسبق، رئيس الجمهورية فيما بعد، وهي أقصى عقوبة في القانون التركي في ذلك الوقت، لأنه كان قد ألغى عقوبة الإعدام.
مات قائد الانقلاب كنعان ايفرين في 10 مايو 2015، أثناء نظر محكمة النقض طعنا تقدم به ضد الحكم بسجنه مدى الحياة، مات وقد خلف تاريخا أسودا في تركيا الحديثة، تلاحقه لعنات مئات الآلاف من المظلومين والضحايا، مات بعد أن أهان الشعب التركي وأذله وأورثه تركة كبيرة من الفساد والفقر والبؤس وارتهان الإرادة الوطنية لعواصم أجنبية.