حاتم سلامة يكتب: محمد علي دولة.. ليتك كنت حيًا
ما أروعه هذا الناشر حينما يكون مثقفًا يرسم مسار الثقافة، وينظر طريق المعرفة، ويخدم ساحة العلم والفكر.. إنه لا شك صورة أخرى غير الناشر الذي يكون أول اهتماماته ونظره وهمته نحو المكسب المادي وحده.
وحديثي اليوم ما هو لحظة تأمل عابرة لما يعانيه المؤلف في سوق النشر وعلاقته بالناشرين، الذين حولوه إلى سوق أشبه بتجارة المخدرات، التي يمتصون بها دماء الضحايا.
ولعلنا اليوم نضرب نموذجا بناشر عملاق كانت له بصماته القوية في عالم الثقافة ونشر المعرفة، وهو الراحل الكبير (محمد علي دولة) رحمه الله.. المؤلف والناشر والداعية.
استطاع العلامة الدكتور (محمد رجب البيومي) أن يؤلف لنا أول ترجمة عن الأديب والمفكر الكبير محمد حسين هيكل (باشا) فقدم لنا أروع ترجمة لأعظم أديب.. ولكن تبين لي مع قراءة الكتاب، أن الفضل في وجوده ليس راجعا إلى البيومي نفسه، وإنما كانت المفاجأة أن صاحب الفضل فيه هو الأستاذ الكبير والناشر السوري الفذ (محمد علي دولة) صاحب دار القلم العريقة، إذ قال البيومي في مطلع كتابه: «هاتفني أخي الأستاذ الجليل (محمد علي دولة) طالبا أن أكتب عن الدكتور هيكل كتابا يحلل اتجاهه الإسلامي في كتبه الذائعة، تحليلا يكشف عن الهدف والمرمى والأسلوب»
وإلى هنا انتهى كلام مولانا البيومي رحمه الله.. ولكن حديثه الخاص جرنا لاستلهام المعنى الخطير للراحل الفذ (محمد علي دولة) تخيل ما معنى أن يكون ناشر له مثل هذا الهم ويزن الأوضاع الثقافية بهذا الميزان الدقيق، فيرى الاحتياجات التي يتطلبها المشهد العلمي والثقافي، فيبادر بطرحها ليسهم بأفكاره الخصبة السامية في بناء العقول والكشف عن المثل العليا لطلاب الأدب الفكر.
هكذا كان رحمه الله.
أعرف كثيرًا من المؤلفين والأدباء، ولجوا عالم النشر وصارت لهم دور، وكان كل واحد فيهم يتغنى بأنه أقدم على هذه الخطوة حتى ينقذ الساحة الثقافية من جشع الناشرين.
ولكنه وللأسف لا يلبس قليلا حتى يقدم صورة أخرى من هذه التجارة الشوهاء، ويعطينا مثلا متكررا من هذا الناشر الذي يلهث وراء المال وحده، غير عابئ بقيمة أو جودة، فالمهم المال وحده الذي يجتزه من عرق الكاتب.
وهكذا يتحول من مؤلف إلى ناشر، ومن ناشر، إلى تاجر ومن تاجر إلى جزار لا يرحم يقتات بعرق البسطاء.
وأنا اليوم أتسأل هل يوجد ذلك الكاتب الرسالي، الذي ينظر لقيمة الكتاب وحده فإن كان ذو قيمة طبعه دون الطمع والغرض في مال المؤلف؟
والحق أنهم قليلون جدا جدا، وهو ما دعاني اليوم أن أستدعي هذا المثل الهمام في تاريخ الطباعة المعاصرة.
العلاقة بين محمد علي دولة والعلامة البيومي لم تكن علاقة بين ناشر ومؤلف، وإنما كانت علاقة تعاون مثمر على إحياء الثقافة الجادة في وجدان هذا الجيل، وكان الراحل دولة يطبع كل ما يحمل اسم ( محمد رجب البيومي) لقيمته الأدبية والفكرية الكبيرة، وحينما قمت ووفقني المولى الكريم لأكون صاحب أول كتاب يكتب عن الدكتور البيومي منذ رحيله عام 2011م تخيلت أن يكون لهذا الكتاب صداه بين الناشرين، وخاصة دار القلم التي تعرف ما معنى محمد رجب البيومي، وسارعت لعرض الكتاب على الدار التي يرثها أولاد الراحل محمد علي دولة، ولكن الكتاب قوبل بالإعتذار، ربما لهم العذر في هذا ، فهم لا يعرفونني، ويخيل إليهم أنني كاتب مبتدئ لا قيمة لاسمه وقلمه وحضوره، أو ربما هناك ظروف أخرى مادية منعت تبنيهم لهذا الكتاب، ولكني ما زلت أتذكر كلمة قالها لي ولده الأستاذ الفاضل سيد محمد علي دولة سيد محمد دولة: لو كان والدي حيًا لطبع هذا الكتاب دون تردد.
وهذه الكلمة الجميلة منه تكفيني، إذ تدل على رقي أخلاقه وجمال ذوقه، وأنا شاكر له همته وسعيه معي.. لكن خاطري أخذ يردد بعد سماعي لتلك الجملة فيقول: محمد علي دولة.. ليتك كنت حيا.
عرضت الكتاب على أكثر من دار لكنه قوبل بالرفض، وهذا الرفض أعتبره كارثة في المشهد الثقافي، الذي يتنكر للعلامة البيومي ولا يدرك قدره الكبير، وتأثيره العملاق أديبا ومفكرا وعالما وناقدا فذا، قبل أن يكون التنكر لي.
رجل واحد قبل طباعة الكتاب وأبدى ترحيبه بنشره، وهو الأخ والصديق محمد دحروج، محمد دحروج ومحمد دحروج يليق به أن يطبع الكتاب ، لأنه أديب وناقد تربع على ريادة النقد في هذا الجيل، ويدرك ويعرف بدقة ماذا يعني أن يكون هناك أول كتاب يصنف عن العلامة البيومي.
فهو لا شك ناشر رسالي بامتياز.
لكنني أتذكر الآن كلمة قالها لي، كما تذكرت سلفا تلك الكلمة التي قالها لي نجل الراحل (دولة) إذ قال لي دحروج: هل تظن أنني قبلت طباعة هذا الكتاب لأنك صديقي؟ فقلت له نعم ، فقال: لا أنا لم أقبل هذا الكتاب إلا لأنه يخدم رسالتنا.
وكفى بها كلمة تدلل على أن الثقافة الجادة والأصيلة ما زال لها فرسانها الذين يقدرونها حق قدرها.. وأنتهز الفرصة هنا لأحثه وأشجه أن يستكمل المسار ليكون صورة زاهية من الراحل الرسالي الكريم محمد علي دولة..
لا يفوتني في هذا السياق أن أتذكر الفارس النبيل الأستاذ حسن غراب والذي كان لي شرف التعامل معه، في كتابي الأخير عن الأستاذ عبد الوهاب مطاوع، ويكفي أن أقول: إن حسن غراب هو الناشر الوحيد الذي لم يأخذ مني مليما واحدا ولم يكلفني أي أجر في طباعة الكتاب.
ليثبت بالواقع أن التعامل المادي هو الدلالة الكبرى على رسالية الناشر، فتحية له ولكل من يتبنون الأقلام الموهوبة ويعززون من وجودها وبروزها.