حشاني زغيدي يكتب: ملحمة الجزائر بعيون رجل تربية

الأستاذ عبد العزيز شبين بين الإبداع والوعي

  مربٍّ وباحث في قضايا الهوية والأدب التربوي

🔹 مقدمة تأملية:

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته أستاذي المحترم،

 عشتُ ظهر اليوم ملحمة الجزائر الكبرى في أجوائها الأدبية والتاريخية والتربوية، حاولت أن أقرأ ما استطعت.

 قرأتُ المقدمة والتقديم وبعض مقاطع الملحمة بروح المربّي وإحساس العاشق للأدب، فكان هذا المقال المتواضع، الذي لا أدّعي فيه الكمال، بل كانت قراءةً عابرة وسريعة، حاولت أن أتناول من خلالها الأبعاد المهمّة والملهمة في الملحمة، أعيشها بإحساس رجل التربية وذوق العاشق للأدب المتأمل.

حقًّا، وجدتُ الملحمة تستحق أن تُقرأ وتُعاد قراءتها مرارًا، لأنها تحمل روح الوعي العميق بأمّ القضايا الوطنية، وتُجسِّد في جمالها التاريخي أبعاد الهوية الوطنية، تلك الهوية التي تحتاج الأجيال إلى وصالٍ دائمٍ ببركاتها.

 وجدتُ روحي تنسجم مع روح الملحمة وعيًا وفهمًا…

 بوركتَ مربّيًا وشاعرًا ملهمًا، أستاذي الكبير عبد العزيز شبين المحترم.

✦ الأدب كسلاح للذاكرة والهوية

حين تتحوّل القصيدة إلى مرآة أمة، وتغدو الكلمة رصاصة في صدر النسيان، يولد النص الشعري من رحم الوعي الوطني، لا بوصفه زخرفًا لغويًا، بل فعلاً مقاومًا.

 وهذا ما نلمسه جليًّا في ملحمة الجزائر الكبرى للأستاذ الدكتور عبد العزيز شبين، رجل التربية والفكر، الذي انتقل من مدرّج التعليم إلى منبر الشعر، ليسهم في صيانة الذاكرة الوطنية من الذبول، مستلهمًا من عبق تضحيات الشهداء، ووهج الانتماء الأصيل.

🔸 الشعر كتجسيد لتاريخ الجزائر الحي

يبدأ الشاعر ملحمته بالاحتفاء بالجزائر كأرض الجمال والمجد، في لغة تفيض وجدًا وهيبة:

“سقي اللهم أرضي الجزائر سحرًا / يتغنّى شاعرنا بالوطن”

بهذا الاستهلال، يضع الشاعر الجزائر في مصافّ الجمال الفريد، ويؤسّس لارتباط وجداني متين بين الأرض والشاعرية. فالوطن ليس جغرافيا فقط، بل قبلة شعورية تستدرج المعنى وتنقّب في الذاكرة.

🔸 التضمين الرمزي والتاريخي – من الأنبياء إلى قادة الثورة

يستثمر الأستاذ شبين ثقافته الدينية والتاريخية الواسعة ليُعيد تركيب الهوية الجزائرية عبر إشارات رمزية عميقة:

“فلقد كنا خائفين كموسى / وتجاوزنا البحر على أملانٍ ثقيلة”

 “وانفلق فرعون وهامان خلفنا / فغرقا في وادي قريش”

هنا يجري الشاعر مقارنة ضمنية بين مسار الأنبياء ومسيرة الشعب الجزائري، حيث يصبح البحر رمزًا للنجاة، وفرعون صورةً للطغيان المحتوم نهايته.

🔸 جغرافيا الذاكرة – من الأطلس إلى زغوان

الملحمة تُعيد رسم الخريطة الروحية للجزائر، من خلال توثيق الأماكن الرمزية في الذاكرة النضالية:

“ما هزمْنا عند حرّاش حين دنا / زغوان تشتمّ ريحان الفداء”

 “هنا نصحو على شهيد في القيام / جرجرة تهتف صدقًا بالدعاء”

فالأماكن لم تعد مجرّد مواقع، بل محطات إشعاع في ذاكرة الوطن، تنبعث منها شرارة المقاومة والعزّة.

🔸 جدلية الوعي والتجديد – من مفدي إلى شبين

يُدرك الأستاذ شبين أن الملاحم ليست فقط محاكاةً للماضي، بل تأسيسٌ لوعيٍ جديد.

 جاءت محاكاته المضمرة لإلياذة مفدي زكريا، ولكن بروح معاصرة تعبّر عن سؤال ما بعد الاستقلال:

“إنها إلياذة تلك، ولكني / خطّها الستّونيّ في دفتر التذكار”

يُعلن بذلك أن مشروعه امتدادٌ روحي وتاريخي للإلياذة، لكنه يختلف عنها في استنطاقه للزمن الجديد، متسائلًا: هل استحقّت الأجيال وديعة الشهداء؟

🔸 التربية والقصيدة – توأمان في فكر الشاعر

كونه رجل تربية، لا يغيب عن الملحمة حضور البعد التربوي والأخلاقي:

“نحن دومًا بجنبه سعداء / فله الأرواح فداء”

هكذا يريد الشاعر جيلًا يُتقن حبّ الوطن كما يُتقن القراءة، ويربط بين العلم والانتماء، ليكون الأدب وسيلة بناءٍ لا شعارًا فارغًا.

 🔸 انطباعاتي – الأدب كعشق وخلود

أرى بعيون الكاتب أن ملحمة الدكتور عبد العزيز شبين تمثّل امتزاج العلم بالعاطفة، والتاريخ بالوعي:

“مزيجٌ من العلم والعشق: علم المؤرّخ الذي يفتّش في الوثائق، وعشق المربّي الذي يرى في كل طفل جزائريٍّ وريثًا لروح بن مهيدي.”

 “لقد حوّل التاريخ من سردٍ جامد إلى دمٍ يسري في عروق الأمة.”

فالمربّي الشاعر – في نظر الكاتب – يحرس الذاكرة بقصيدة، ويعلّم الأجيال كيف يكتبون التاريخ بلغة الوعي.

✦ حين يصير الأدب فعلاً للنجاة… لا ترفًا لغويًا

“الأدب ليس ترفًا ثقافيًا، بل فعل بقاء وجودي – مرآة تعكس ماضي الأمة وقنديل يضيء مستقبلها.”

لقد أدرك هذا المربّي أن الشعر حين يُكتب بدم الذاكرة، يصير ملحمةً تسري في شرايين الأمة، تُنقذ الذاكرة من التآكل، وتُحصّن الوطن ضد النسيان.

فـ شبين لم يكتب سردًا، بل صاغ ذاكرة مقاومة،

 وحشاني لم يقرأ قراءة لغوية، بل فتح نوافذها على الضمير الجمعي،

 ليقول للجيل القادم:

 “كل طفل جزائري وريثٌ لروح بن مهيدي.”

كما عبرت موسيقى “الديوان” من الرَحبة إلى الخشبة، كذلك عبرت ملحمة شبين من الوثيقة إلى التجربة، وصار الأدب فعلًا مقاومًا، والحرف موقفًا، والقصيدة عهدًا يُورَث.

“في زمن يُراد لنا فيه أن ننسى،

 يُولد شاعرٌ مثل شبين… ويكتب،

 ويُولد مربٍّ مثل حشاني… ويشهد،

 فتبقى القصيدة قنديلًا،

 ويبقى الأدب دمًا يسري… لا حبرًا يجف.”

🔸 الكتابة فعل مقاومة مستمر

يذكّرنا عبد العزيز شبين – عبر ملحمته – أن ملحمة الجزائر لم تُختم سنة 1962، بل تبقى نصًّا مفتوحًا يُعاد كتابته كل جيل.

وكما حوّل مفدي زكريا الثورة إلى شعر خالد، جعلها شبين منهجًا تربويًا للحياة.

 “الإلياذة تُقرأ… والملحمة تُعاش.

 وفرقٌ بين من يُلقي الشعر، ومن يصنع من الدرس ملحمة.”

 — عبد العزيز شبين

🔹 الخاتمة التأملية:

أستاذي الكريم،

 لقد خرجتُ من قراءتي المتواضعة لهذه الملحمة، بحالةٍ شعورية ونقدية، جعلتني أتيقّن أن القصيدة عندكم ليست مجرد بناء لغوي، بل أداة تربوية وسلاح هويّاتي، وأن الشاعر المربّي – كما عهدناك – لا يكتب بمداد الحبر، بل يكتب بمداد الوعي والرسالة.

تسكن في حروفك ذاكرة الشهداء، وتنهض من قصائدك روح الوطن، وترى في كل تلميذ جنينًا لوعد بن مهيدي.

 فصرتَ بملحمتك تلك، معلّمًا وشاعرًا… ومهندسًا لروح الأمة.

حقًّا، لقد وجدتُ في هذه الملحمة بصمة لا تُنسى، ومشروعًا تربويًا شعريًا يستحق أن يُدرّس.

 ولعلّ أصدق ما أختم به قولي:

“إن من يُتقن الكتابة بروح التربية،

 يصنع من كل بيتٍ دربًا للنهضة،

 ومن كل شهيدٍ معلمًا في وجدان الأمة.”