حمدي شفيق يكتب: الوحيد الفريد أبو ذر الغفاري (4)
خشي معاوية عاقبة الاختلاف بين مؤيدي أبى ذر الزاهدين طلاب الآخرة، وبين مُعارضيه من أهل دمشق الأثرياء المُقبلين على الدنيا وحطامها الفاني، فأرسل إلى عثمان بن عفان رضي الله عنه، يلتمس منه استدعاء أبى ذر إلى المدينة المنوّرة، حتى لا تضطرب أحوال الشام..
وبدوره، أدرك أبو ذر رضي الله عنه استحالة بقائه بين الناس، بعد تغيّر الحال عمّا كان عليه في صدر الإسلام، وانتشار الترف والإسراف، فسار إلى المدينة النبوية الشريفة، حيث التقى بعثمان بن عفان رضي الله عنه، واستأذنه في الخروج من الحَضَر، والإقامة بضاحية «الربذة» الصحراوية فأذن له الخليفة.. وفى العزلة قضى أبو ذر ما بقى من عمره، عابدًا رَبّه، بعيدًا عن المغريات والفتن، كُافًّا أذاه عن الناس، سالمًا من أذاهم أيضًا.. وعندما حان موعد الرحيل إلى الأَحِبّة، محمد ﷺ وصحبه، أوصى أبو ذر زوجته وغلامه قائلًا: «إذا مِت فغسّلاني وكفناني، وضَعَاني على الطريق، وأول ركب يمرون قولا لهم: هذا أبو ذر».
وبكت زوجته تأثرًا بما أصابه، في صحراء قاسية لا يكاد يجد فيها مَن يدفنه، لكنه بَشّرها قبل وفاته بحديث النبي ﷺ الذي أخبره فيه بأنه سيموت في الصحراء، ولكن الله تعالى سيبعث إليه جماعة من المؤمنين تتولّى الصلاة عليه ودفنه.. وصدق الحبيب صلى الله عليه وسلم، فما كاد الغلام وسيدته يضعان الجسد الطاهر على قارعة الطريق، حتى طلعت عليهما قافلة من أهل الكوفة، وكان معهم الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه.. وعلم الوافدون بهوية المُتوفّى، وأنه الصحابي العظيم أبو ذر، فصاحوا جميعا: فديناه بآبائنا وأمهاتنا.. وما أن عرف ابن مسعود أن الميت هو أخوه وصاحبه ورفيق دعوته وجهاده أبو ذر، حتى احتضنه وبكى بحرارة، وهتف وهو يُواريه تحت التراب بيديه: صدق
رسول الله، ﷺ القائل: «يرحم الله أبا ذر، يمشي وحده، ويموت وحده، ويبعث وحده».. رضي الله عنه وأرضاه.