في المكتبة العربية، يقف كتاب «حياة الحيوان الكبرى» لمؤلفه كمال الدين محمد بن موسى الدميري (742-808هـ) كصرح موسوعي فريد، يجمع بين دقة التصنيف العلمي ورحابة الخيال الأدبي، وبين التأصيل الشرعي والمعلومة الطبيعية، حتى صار مرجعًا لا غنى عنه للباحثين في التاريخ الطبيعي، واللغة، والأدب، والفقه، وحتى الميثولوجيا.
المؤلف: الدميري
وُلد الدميري في مصر عام 742هـ، وعاش في ظل دولة المماليك البحرية، حيث ازدهرت العلوم والفنون، وكان من العلماء الموسوعيين الذين جمعوا بين الفقه الشافعي، والحديث، واللغة، والتاريخ الطبيعي. عُرف بثقافته الموسوعية وحبه لجمع المعارف من مصادر متعددة، سواء عربية أو إسلامية أو مترجمة عن الحضارات السابقة.
مضمون الكتاب وبنيته
يُعد «حياة الحيوان الكبرى» موسوعة شاملة تضم كل ما يمكن أن يقال عن الحيوان في زمن مؤلفه: من أوصاف شكلية وتشريحية، إلى طباع وسلوكيات، إلى مكانة الحيوان في الشرع، واللغة، والأمثال، والأساطير.
عدد المداخل: قرابة 1000 مادة مرتبة على حروف المعجم، تبدأ بالهمزة وتنتهي بالياء.
المنهج: عند ذكر كل حيوان، يبدأ الدميري بوصفه الجسدي وبيئته، ثم يتناول أحكامه الشرعية (مثل ما يحل أكله وما يحرم)، ويذكر ما ورد عنه في القرآن والحديث، ثم يسوق ما ورد في أمثال العرب وأشعارهم، ولا يغفل الأساطير والحكايات الشعبية.
المصادر: اعتمد الدميري على عشرات الكتب، من بينها «الحيوان» للجاحظ، و«كتاب الحيوان» لابن أبي الأشعث، و«القانون» لابن سينا، وكتب اللغة كـ«لسان العرب».
الفصول / الأبواب
رغم أن الكتاب مرتب معجميًا، إلا أن مضمونه يمكن تصنيفه موضوعيًا إلى محاور:
1-الأوصاف الطبيعية: الشكل، الحجم، اللون، البيئة.
2- الأحكام الشرعية: ما يجوز أكله أو الانتفاع به، وما لا يجوز.
3- الرمزية والمعاني: استخدام الحيوان في الأمثال والأشعار، ودلالته الرمزية.
4- القصص والحكايات: من التراث العربي والإسلامي، وأحيانًا من أساطير الأمم الأخرى.
5- الطب والفوائد: خواص أعضاء الحيوان وأثرها في الطب الشعبي.
6- المرويات الدينية: ما ورد في القرآن والسنة عن الحيوان المذكور.
أهميته العلمية والتاريخية
في التراث العلمي: يمثل حلقة وصل بين العلم الطبيعي القديم والمعرفة الإسلامية، إذ دمج بين ملاحظات واقعية ونقول عن العلماء السابقين.
في الفقه: جمع الأحكام المتعلقة بالحيوانات، وهو ما جعله مرجعًا للفقهاء.
في اللغة والأدب: حفظ لنا ثروة من الأمثال والحكم والقصائد التي كادت تضيع.
في الثقافة الشعبية: وثّق تصورات الناس عن الحيوان، بين الواقع والأسطورة.
أهم المقولات والشواهد
عن الإبل: «هي سفينة الصحراء، خلقها الله آية على قدرته، تحتمل العطش أيّامًا، وتطوي الفيافي بلا كلل».
عن الهدهد: ﴿فمكث غير بعيد فقال أحطت بما لم تحط به﴾، مع تعليق المؤلف على ذكاء الطير.
عن الأسد: «أشجع الحيوان وأجرؤه، وفي الأمثال: أجرأ من أسد».
عن النحل: ﴿وأوحى ربك إلى النحل﴾، مع وصف إعجاز بناء بيوتها.
أثر الكتاب في المؤلفات اللاحقة
ترك «حياة الحيوان الكبرى» بصمة واضحة في مسار المؤلفات العربية والإسلامية التي تناولت الحيوان. فقد اقتبس منه مؤلفون في مجالات مختلفة:
في الفقه، نقلت كتب الأحكام الشرعية عن الدميري فصولًا كاملة تتعلق بالحيوانات وما يجوز منها وما يحرم.
في الأدب واللغة، استعان به أصحاب المعاجم والرحالة في توثيق أسماء الحيوانات وصفاتها.
في العلوم البيئية الحديثة، اعتمد باحثون في تاريخ العلوم على نصوص الدميري لفهم تصورات العرب عن الطبيعة قبل دخول المنهج التجريبي الغربي.
بل إن بعض الموسوعات البيئية التي أعدت في القرن العشرين بالعربية أعادت صياغة مادته، وأدرجتها مع الصور الحديثة، لتصل إلى القارئ الجديد، مما يجعل الكتاب أحد أطول النصوص العربية عمرًا في التداول العلمي.
القيمة في الحاضر
بعد أكثر من ستة قرون، ما زال «حياة الحيوان الكبرى» مرجعًا لفهم كيف نظر العرب والمسلمون إلى الطبيعة، وكيف جمعوا بين العلم والدين والأدب في عمل واحد. إنه ليس مجرد كتاب عن الحيوانات، بل وثيقة ثقافية تكشف صورة العقل العربي الوسيط، ورؤيته للعالم الحي، بين المعرفة التجريبية والخيال الميثولوجي.
«حياة الحيوان الكبرى» ليس مجرد معجم حيواني، بل مرآة لثقافة أمة في ذروة عطائها العلمي. جمع الدميري بين ما هو حقيقي وما هو أسطوري، بين النص المقدس والمثل الشعبي، بين وصف الطبيعة ورمزية المعنى. ولعل سر بقاء هذا العمل في المكتبة العربية حتى اليوم هو أنه لم يكتفِ بجمع الحقائق، بل جعل من الحيوان مدخلًا لفهم الإنسان نفسه.