في التاريخ محطات لا تُمحى، تتقاطع فيها طرق الأمم، فتُثمر تفاعلاتها عن نهضات كبرى تغيّر مسار الإنسانية.
ومن بين هذه المحطات، يبرز الدور الفريد الذي لعبه العرب والمسلمون في إحياء الفكر الإنساني، حين حملوا شعلة المعرفة من بغداد إلى قرطبة، ومن هناك إلى قلب أوروبا، فكانوا الشرارة التي أطلقت فجر النهضة الأوروبية.
كتاب الدكتور عبد الرحمن بدوي، “دور العرب في تكوين الفكر الأوروبي”، يوثق هذه الرحلة المبهرة بالأدلة والشواهد، مؤكدًا أن العرب لم يكونوا مجرد ناقلين للتراث، بل مجددين ومبتكرين أضافوا إلى رصيد الحضارة الإنسانية.
من بيت الحكمة إلى جسور الأندلس وصقلية
يفتتح بدوي كتابه بالحديث عن بيت الحكمة في بغداد، ذلك الصرح العلمي الذي ازدهر في العصر العباسي، حيث جُمعت فيه كنوز التراث اليوناني والسرياني والفارسي، وتُرجمت إلى العربية على أيدي أعلام مثل حنين بن إسحاق وثابت بن قرة.
لم تتوقف الجهود عند الترجمة، بل امتدت إلى تطوير هذه العلوم وإبداع الجديد فيها، فظهر علم الجبر على يد الخوارزمي، وأبحاث البصريات لابن الهيثم، ودراسات البيروني في الفلك والجغرافيا.
انتقلت هذه المعارف إلى أوروبا عبر الأندلس، حيث تحولت قرطبة وإشبيلية وطليطلة إلى منارات للعلم، وكذلك عبر صقلية التي كانت بوابة أخرى للثقافة العربية نحو إيطاليا وفرنسا. هناك، عمل المترجمون – مسلمين ومسيحيين ويهودًا – على نقل هذه المؤلفات إلى اللاتينية، فاتسعت آفاق العقل الأوروبي.
ابن رشد… الفيلسوف الذي علّم أوروبا المنطق
يولي بدوي اهتمامًا خاصًا بالفيلسوف الأندلسي ابن رشد، الذي شرح مؤلفات أرسطو بلغة نقدية عقلانية. أصبحت شروحه مرجعًا أساسيًا في جامعات باريس وبادوفا، وأثرت في كبار المفكرين مثل توما الأكويني، الذي تفاعل مع الفكر الرشدي في صياغة فلسفته المدرسية.
الطب والصيدلة… من الرازي إلى ابن سينا
في مجال الطب، ظل كتاب القانون في الطب لابن سينا وكتب الرازي من المراجع الكبرى في كليات الطب الأوروبية حتى القرن السابع عشر. كانت هذه المؤلفات تُدرّس باللاتينية مباشرة عن النصوص العربية، لما تحمله من دقة منهجية وتنظيم متكامل للمعارف الطبية والصيدلانية.
الأثر الثقافي واللغوي
امتد التأثير العربي إلى المفردات الأوروبية، حيث دخلت كلمات عربية إلى الإسبانية والبرتغالية والإيطالية، ومنها إلى الإنجليزية والفرنسية، مثل: الجبر، الكحول، الكيمياء، القطن، القيراط… وهي شواهد لغوية على عمق التداخل الحضاري.
شهادات غربية تعترف بالدور العربي
ما أورده بدوي يجد صداه في كتب مؤرخين ومستشرقين غربيين بارزين:
فيليب حِتّي في The Arabs: A Short History يؤكد أن العرب كانوا الجسر الذي عبرت عليه الحضارة الكلاسيكية إلى أوروبا.
جوزيف شاخت وكليفورد بوسورث في The Legacy of Islam عرضا دور العلماء المسلمين في الطب والرياضيات والفلسفة.
برتراند راسل في The History of Western Philosophy أبرز أثر ابن رشد على الفكر الأوروبي الوسيط.
جورج صليبا في Science and Civilization in Islam أوضح كيف مهّدت الاكتشافات العربية الطريق للثورة العلمية.
الرسالة الثقافية والسياسية
يؤكد الكتاب أن الحضارات لا تقوم على الفراغ، وأن النهضة الأوروبية ما كانت لتولد لولا الإسهام العربي. وفي هذا تذكير للعرب المعاصرين أن ما أنجزه أجدادهم كان نتاج وعي علمي وانفتاح ثقافي، وأن استعادة هذا الدور ليست حلمًا مستحيلًا إذا توفرت الإرادة والمعرفة.
سيرة المؤلف
الدكتور عبد الرحمن بدوي (1917–2002)، فيلسوف ومفكر مصري، يُلقب بـ”فيلسوف الوجودية في العالم العربي”. حصل على الدكتوراه في الفلسفة من جامعة القاهرة، ودرّس في جامعات عربية وأوروبية. ترك أكثر من 120 كتابًا بين تأليف وتحقيق وترجمة، وكان من أبرز المدافعين عن التراث العربي ودوره في التاريخ الإنساني.
إن قراءة هذا الكتاب ليست مجرد عودة إلى الماضي، بل هي دعوة لإدراك أن الحضارة سلسلة مترابطة، وأن العرب – حين امتلكوا العلم والإبداع – كانوا في قلب هذه السلسلة. واليوم، في زمن العولمة والانفتاح المعرفي، يمكن لهذه الأمة أن تعيد إشعال شعلة النهضة إذا أحسنت استثمار تراثها وربطه بمستقبلها.
