بحوث ودراسات

د. أحمد زايد يكتب: إعجاز التشريعات الإسلامية في بناء المجتمع المثالي (3-10)

 التيسير في أحكام المعاملات وعقودها

ملامح التيسير ورفع الحرج عن الخلق بادية في كافة التشريعات الإسلامية، الاجتماعية منها والمالية والسياسية وغيرها، حتى غدا معلوما من الدين بالضرورة أن الطابع العام للشريعة الإسلامية هو التيسير ورفع الحرج، وقد عرف ذلك بالاستقراء لأصول الشريعة وفروعها.

قال تعالى: {وما جعل عليكم في الدين من حرج}، وقال سبحانه: {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر}

فغدا واجبا على الدعاة والفقهاء رعاية هذه الخصيصة في جانبي الدعوة والإفتاء، أما في الجانب الدعوي: فرعاية التيسير يقرب الشريعة إلى قلوب الخلق ويدفعهم إلى الإيمان بها والدخول تحت أحكامها، وقد ألمح الشاطبي إلى أن التيسير جزء من التحبيب الذي قال الله تعالى عنه في بيان رحمته بخلقه وحكمته في تشريعه: {ولكن الله حبَّب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم}

وأما في الجانب الفقهي، فإن المفتي والفقيه إن كان يسعه أن يحمل نفسه على الأحوط والأمثل والأشد، لكن هذا غير مطلوب عند إفتاء الناس وتعليمهم أمور الفقه، وكل ذلك ابتغاء تقديم الإسلام للناس على وجهه الصحيح الميسور الذي أراده الله.

وبتطوافة سريعة في العقود المالية في الفقه الإسلامي نلحظ تجليات خصيصة التيسير من الله تعالى على خلقه في كافة شؤونهم الاقتصادية لتسير حياتهم بعيدا عن الحرج والشدة، ويتمثل الإعجاز في تمام الانضباط المصاحب لهذا التيسير، بحيث لا يعيش الخلق دون أن يُعجزَهم الانضباط بقيوده، ولا يسوقهم التيسير إلى التفريط، ومن أمثلة ذلك:

ما تأملناه في عقد الجعالة، حيث شرعها الله تعالى لحاجة الناس إليها في أوقات كثيرة، فقد يعجز المرء أحيانا عن فعل بعض الأشياء أو يتعذر عليه البحث عن مفقود منه، أو يضيق وقته عن ذلك، فيكون محتاجا إلى من يقوم له بذلك، فيقول من وجد مفقودي أو من أعاد لي كذا أو ما شاكل ذلك فله كذا وكذا، أباح الإسلام ذلك وقنَّنَه بضوابط وشروط تيسيرا على الناس، على الرغم مما يكتنف هذا العمل المطلوب من العامل من الجهالة. وقد تجاوز عنها الإسلام في سبيل حصول الرفق بالناس، وفي ذات الوقت لا يُحلُّ الإسلام أن يطلب إنسان مالا على عمل قام به تطوعا دون إذن من الجاعل حتى لا تؤكل أموال الناس بالباطل.

وإذا انتقلنا إلى عقود الشركات الجائزة شرعا كالقراض أو المضاربة نرى فيها جانب التيسير على الخلق مع الانضباط التام في أحكامها، فالمرء قد يكون صاحب مال لكنه عاجز عن استثماره، أو فاقد الخبرة في تشغيله، أو يضيق وقته عن العمل به، فيحتاج إلى غيره من أصحاب الخبرات، الذين ربما لا يكون لديهم مال، وقد لا يكون لهم رأس مال إلا الخبرة بالتجارة والعمل، فيدفع صاحب المال إلى من يملك الخبرة للاتجار بماله على ربح يتفقون عليه بينهما، وفي هذا تحريك للمال وإفادة من الخبرات وتشغيل العاطلين.

ثم يسر الإسلام كذلك على الناس أمور معايشهم وإعمار حياتهم فأباح لهم إحياء الموات وحيازة ما أحيوه لأنفسهم، ففي رِوَايَةُ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ َأَنَّهُ قَالَ: «مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيْتَةً فَهِيَ لَهُ وَلَيْسَ لِعَرَقٍ ظَالِمٍ حَقّ». وفي هذا رفق بالناس وتيسير لمعايشهم، فلربما ضاق العيش بإنسان ولم يجد فرصة عمل في الحضر، فيلجأ إلى أرض موات فيحييها فيفتح على نفسه باب رزق بدلا من أن يتكفف الناس، ويكون بذلك عاملا منتجا.

وحتى لو كان واجدا فإن ذلك لو فعله سيكون باب خير له ولمن يعمل معه من الناس، فضلا عن كونه نوع من أنواع عمارة الكون التي هي مقصد منصوص عليه في الكتاب.

وإذا تأملنا عقد الإجارة نجد كثيرا من معاني التيسير على الخلق تتجلى في تشريعه وأحكامه وتفاصيله، يقول القفال الشاشي في حكمة تشريع هذا العقد: “إن بالناس حاجة إلى المعاوضة على المنافع، كما بهم حاجة إلى المعاوضة على الأعيان؛ لأن فيهم من لا يجد عينا يعاوض عليها، فيضطر إلى عقد معاوضة على منافع بدنه، ويكون له الدواب فيعاوض على منافعها فيبقي عليها ويحصل له عوض منافع بدنه ويكون له، فأبيح لهم ذلك لما فيه من الرفق والمعونة على إقامة المعاش” (محاسن الشريعة: 485).

ثم يقول رحمه الله: “وقد يكون للإنسان الشيء يحتاج إلى حافظ ومصلح، فلا يجد من يتطوع له به، ويجد من يقوم مقامه في حفظه وحفظ ماله، وإصلاحه بأجرة يجعلها له، ويكون حقيقة هذا إن من احتاج إلى حفظ ماشية أو بناء موضوع له فإن أصل ذلك أنه ينبغي أن يعمله بنفسه، فإذا حصل بنفسه حصل له الارتفاق وقد لا يعرف ذلك”. وحاصل الكلام أن الشريعة أباحت هذا النوع من المعاملة لدفع الضيق عن الناس وتيسير معايشهم دون حرج أو مشقة، فكل واحد من الخلق محتاج إلى الآخر وتلك سنة جارية في كون الله تعالى.

النّاسُ للنّاسِ مِن عُربٍ ومِنْ عَجَمٍ — بعضٌ لبعضٍ وإن لم يشعروا خَدَمُ

وقال سبحانه: {ليتخذ بعضهم بعضا سخريا}.

وبنظرة عجلى على عقد الشفعة مثلا رأينا كيف يدفع الله تعالى بهذا التشريع الضر والمشقة على الناس، فلا يلجئهم إلى دفع أموال لقسمة الشائع من الأملاك فشرع الشفعة لئلا يضطروا إلى ذلك، فيتقدم الشريك ويأخذ نصيب شريكه بثمنه منه، أو يكون له الحق في هذا النصيب ممن ابتاعه منه بثمنه، وفي هذا توفير للمال من جهة وحفظ للملك الذي قد يضيع جزء من منافعه بالقسمة، وكذلك فيه من الرفق بالشريك القديم ما فيه من حيث عدم إدخال شريك حادث عليه ربما لا يرتضيه أو لا يرغب في شراكته.

وهذا كلما تأملنا في أي عقد من أنواع العقود الشرعية سنجد فيها هذا الملمح (التيسير ورفع الحرج) الذي يصاحبه (انضباط وإحكام) بحيث يكون الخلق فيه في سعة وانضباط في ذات الوقت، وصدق الله تعالى: {قل أنزله الذي يعلم السر في السماوات والأرض}.

د. أحمد زايد

أستاذ مشارك في كلِّيتي الشريعة بقطر، وأصول الدين بالأزهر

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى