أقلام حرة

د. أحمد زكريا يكتب: القبلة الأولى وبداية المعراج

لم يكن الإسراء مجرد حادث فردي بسيط رأى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم الآيات الكبرى وتجلى له ملكوت السماوات والأرض مشاهدة وعيانا بل زيادة إلى ذلك – اشتملت هذه الرحلة النبوية الغيبية على معان عميقة دقيقة كثيرة،وإشارات حكيمة بعيدة المدى،فقد كانت البداية من المسجد الحرام وكانت النهاية في المسجد الأقصى،وفي هذه دلالة عجيبة فمن صحت بدايته صحت نهايته،والمسجد الحرام منبت الملة ومصدر التوحيد فعلى قدر قوة أهل التوحيد،وتمكن الإسلام في القلوب يكن الوصول سهلا إلى المسجد الأقصى،فلن يتحرر الأقصى ويصله المسلمون،كما وصله رسولهم صلى الله عليه وسلم،إلا إذا صحت وطهرت قلوب المتوجهين إلى المسجد الحرام.

بداية المعراج:

وإذا أراد المسلمون الوصول إلى المعالي وتقوية الصلة بالسماء، وبداية المعراج الحقيقي فلابد لهم من الوصول أولا إلى أولى القبلتين، وكأنه لا عز ولا شرف للمسلمين ولا معراج ولا وصول إلا إذا انطلق من المسجد الأقصى، فمهما حقق المسلمون من رفعة وازدهار حضاري ومادي، فلا معنى له، والأقصى أسير.

إمامة النبي وريادة المسلمين:

جاءت حادثة الإسراء لتؤكد عالمية الرسالة،فمحمد صلى الله عليه وسلم هو نبي القبلتين، وإمام المشرقين والمغربين، ووارث الأنبياء قبله، وإمام الأجيال بعده، فقد التقت في شخصه وفي إسرائه مكة بالقدس،والبيت الحرام بالمسجد الأقصى،وصلى الأنبياء خلفه،فكان هذا إيذانا بعموم رسالته وخلود إمامته وإنسانية تعاليمه، وصلاحيتها لاختلاف الزمان والمكان، وأفادت الحادثة التي جاء ذكرها في سورتي الإسراء والنجم تعيين شخصية النبي صلى الله عليه وسلم ووصف إمامته وقيادته وتحديد مكانة الأمة التي بعث فيها وآمنت به وبيان رسالتها ودورها الذي ستمثله في العالم،ومن بين الشعوب والأمم.

الإسراء خط فاصل:

جاء الإسراء – كما يقول أبو الحسن الندوي (في السيرة النبوية، ص:169):

خطا فاصلا بين الناحية الضيقة الموقتة وبين الشخصية النبوية الخالدة العالمية،فإن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم زعيم أمة، أو قائد إقليم، أو منقذ عصر، أو مؤسس مجد، لم يكن في حاجة إلى الإسراء والمعراج،ولم يكن في حاجة إلى سياحة في عالم الملكوت،ولم يكن في حاجة إلى أن تتصل بسبه الأرض بالسماء اتصالا جديدا،لقد كان له في أرضه التي يعيش فيها وفي محيطه الذي يكافح فيه،وفي مجتمعه الذي يسعى لإسعاده غنى وسعة، لا يفكر في غيره، ولا يتجاوز إلى أخرى من الأرض، فضلا عن السماوات العلى، وسدرة المنتهى، وفضلا عن المسجد الأقصى الذي يبعد عن بلده بعدا كبيرا والذي كان في ولاية الديانة النصرانية وحكومة الأمة الرومية القوية.

وجاء الإسراء، وأعلن أن محمدا صلى الله عليه وسلم، ليس من طراز القادة والزعماء الذين لا تتجاوز مواهبهم، وجهودهم، ودوائر كفاحهم حدود الشعوب والبلاد، ولا تسعد بهم إلا الشعوب التي يولدون فيها، والبيئات التي ينبعون منها،

إنما هو من جماعة الأنبياء والرسل الذين يحملون رسالات السماء إلى الأرض، ويحملون رسالات الخالق إلى الخلق، وتسعد بهم الإنسانية على اختلاف شعوبها وطبقاتها وعهودها وأجيالها.

القبلة الأولى:

كان رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون يصلون إلى بيت المقدس، ومضى على ذلك ستة أشهر بعد ما قدم المدينة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب أن يصرف إلى الكعبة، وكان المسلمون العرب -وقد رضعوا بلبان حب الكعبة وتعظيمها- وامتزج ذلك بلحومهم ودمائهم لا يعدلون بالكعبة بيتا، ولا بقبلة إبراهيم وإسماعيل قبلة، وكانوا يحبون أن يصرفوا إلى الكعبة، وكان في جعل الكعبة إلى بيت المقدس محنة للمسلمين، ولكنهم قالوا:سمعنا وأطعنا.

وقالوا: {آمنا به كل من عند ربنا}، فلم يكونوا يعرفون إلا الطاعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم والخضوع لأوامر الله، وافقت هواهم أم لم توافقها، واتفقت مع عاداتهم أم لم تتفق.

والسؤال الذي يطرح نفسه بقوة،

لماذا جعل الله بيت المقدس القبلة الأولى للمسلمين، على الرغم من الحب الشديد للكعبة؟

لا شك أن ذلك يعني أشياء كثيرة منها، أن للمسجد الأقصى مكانة عظمى عند الله عز وجل، ولابد أن ينتبه المسلمون إلى تلك الأمانة.

أن شرف المسلمين وعزهم مرتبط بهذا المسجد، فهو بمثابة الأصل والماضي والبداية والمطلق، ومن لا أصل له ولا ماضي لا حاضر له ولا مستقبل.

هذا المسجد الذي زاره النبي صلى الله عليه وسلم، وهو تحت سلطة غير المسلمين، وفيه إشارة بليغة أن هذا المسجد محط أنظار الجميع، والكل يريد أن يسيطر عليه لتتحقق له السيادة والعزة، فعلى المسلمين أن يتيقظوا له، ويبذلوا كل غال ونفيس في سبيل تحريره والحفاظ عليه.

وما زالت في القبلة الأولى وبداية المعراج دروس وعبر، وهذا قليل من كثير، نسأل الله أن يحرر الأقصى الأسير، وأن يرزقنا جهادا فيه، وصلاة في محرابه.

د. أحمد زكريا

كاتب وباحث

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى