ما ميز الإمام الشافعي -رحمه الله- في «أصول الفقه» عن غيره من أقران زمانه هو قدرته في ابتكار القواعد والأصول وسكها كقوانين يمكن اطرادها وإعمالها من قبل الفقيه والمفتي، ما جعل العقل المسلم مسيجا بسياج آمن يمنع خروجه عن الشريعة وهو يرتاد آفاق الفهم والاستنباط والاجتهاد. وهو الدور ذاته الذي قام به شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في مجال العقيدة، حيث أحال نصوص السلف في قضايا ومسائل العقيدة إلى قواعد وأصول، وسكها قوانين ناظمة لمنهجهم الذي توزع بين الآثار والأقوال والردود. وعندما جعل قاعدة السلف في الإيمان بذات الله وأسمائه وصفاته وأفعاله: (إثبات ما أثبته الله تعالى لنفسه وأثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم، ونفي ما نفاه عن نفسه ونفاه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم، بلا تعطيل ولا تمثيل، ولا تحريف ولا تكييف، ولا تأويل ولا تفويض)، نحت هذه المقولة باعتبارها خلاصة الاستقراء لكل ما ثبت عنهم. ونفيه للتعطيل والتمثيل والتحريف والتكييف والتأويل والتفويض إنما هو نفي لها إذا اتخذت مناهج أصيلة بديلة عن قاعدة التسليم والقبول، كما هو حاصل عند بعض الفرق، لا أنه نفي لها عند اقتضاء السياقات وضرورات الخطاب الاستثنائية، إذ ورود الاستثناء وارد على كل قاعدة.
والأصل لدى الفرق المخالفة لأهل السنة والجماعة ليس التسليم لما ورد في نصوص الوحي كما تحمله معاني اللغة ومعهود الخطاب الديني، بل التعطيل أو التأويل أو التحريف أو التكييف أو التأويل أو التفويض.
ومن قرأ كتب السلف المتقدمين سيجد لهم بعض نقولات في هذه المعاني في بعض المسائل والأخبار الغيبية، ولربما استشهد بها المخالف لأهل السنة والجماعة على صحة مذهبه كما هي عادة الفرق، وهي التمسك بالاستثناء أو الشذوذ أو الضعيف من الآراء في حين إغفال النصوص الأخرى المتواترة والأظهر في ثبوت قاعدة التسليم التي ذكرها ابن تيمية -رحمه الله- استقراء لمرويات السلف وأقوالهم.
وعليه فكل من أخذ بقاعدة التسليم، وإن وقع في شيء من التعطيل أو التمثيل أو التكييف أو التحريف أو التأويل أو التفويض في بعض المسائل والأخبار، هو بالأساس ملتزم بمنهج أهل السنة والجماعة. وكل من جعل التعطيل أو التمثيل أو التحريف أو التكييف أو التأويل أو التفويض أصله ومنطلقه وأساسه في التعامل مع مسائل وأخبار الغيب في الذات والأسماء والصفات والأفعال لم يكن في هذا الباب تحديدا ملتزما بمنهج أهل السنة والجماعة، وإن حكم عليه في بقية الأبواب الأخرى بانتمائه لهم، لأن العبرة بالحكم الأغلب على منهجه ومسلكه، فهما وفقها وسلوكا.
ومن العدل القول: إن هذه المناهج الخارجة عن التسليم إلى معان مخالفة ليست في مرتبة واحدة من الانحراف والخلل، فالقائلين بالتفويض أو التأويل ليسوا في مرتبة من ذهبوا للتعطيل أو التمثيل، ولا القائلين بالتحريف والتكييف. فمنها القريب ومنها البعيد.
والخلاف الذي وقع بين الصحابة رضي الله عنهم والتابعين وتابعيهم في مسائل الإيمان بالله، بذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله، خلاف في حدود طفيفة جدا، ومسائل معدودة، لا تبطل قاعدة التسليم ولا تخرج عنها ولا تنقلب عليها، وهي في حدود الأمر الطبيعي المحتمل. ويمكن وضع الخلاف أمام الإجماع ليظهر وزنه وموضعه، كما توضع المتشابهات من الآيات أمام المحكمات ليتجلى معناها وشأنها الذي لا يمكن أن ينقض ويضاد المحكم أو يخرج عنه.
ومن تعامل مع هذه المسائل بهذه المنهجية سلم له فقهه وفهمه ونهجه المعرفي، وكان للحق والصواب أقرب، وعن الضلال والخطأ والتناقض أبعد.
هذا فضلا عن أن بقاء العقل المسلم متلق للأخبار تسليما بفطرة لا يشوبها تشويه ولا تعقيد ولا غلو أدعى في الحالة القلبية الروحانية والحالة النفسية الإيمانية، حيث تتلمس الروح جمال المعاني والدلالات التي أراد الخطاب القرآني إيصالها للمؤمن بلغة ميسرة سهلة تطابق اللسان العربي المبين.
ومتى خاض الإنسان جدلا فلسفيا أو كلاما سفسطيا في هذه الآيات أذهب نقاءها ورونقها وروحانياتها عن المتلقي وجعل بينه وبين إشراقاتها حجبا مظلمة.
لهذا لم يبحث الصحابة رضي الله عنهم عن دلالات ومعان مغايرة لتلك التي عرفوها في لغتهم العربية وهم يسمعون لذكر القرآن الكريم للذات الإلهية وأسمائها وصفاتها وأفعالها، ولم يصنع لهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أقفالا إزاء ذلك الفهم البدهي الذي حملته لهم لغة القرآن العربية. وإنما دخل الإشكال مع دخول الأعاجم بكل ما تحمله أديانهم وثقافاتهم ولغاتهم من تصورات شائكة ومصطلحات معقدة ولوازم فاسدة للإسلام، ثم جاءت حركة الترجمة لتراث الفلاسفة وأهل الكتاب لتزيد الطين بلة وتحيل الإيمان إلى فرضيات وجدليات لا نهاية لها.
ومن قرأ القرآن الكريم خال من تلك الفلسفات والسفسطات والغلو سيجد لذة المعاني بردا على قلبه.