بحوث ودراسات

د. تيسير التميمي يكتب: «يا أيها الذين آمنوا أطيعوا اللَّه وأطيعوا الرسول ولا تبطلوا أعمالكم»

وتتنوع الإساءة لديننا الحنيف ولرسولنا وحبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم وتتجدد وتتعدد صورها وأشكالها، حتى بلغت حد مهاجمة أحاديثه وسنته والتشكيك فيها وفي رواتها، بل والمناداة بتركها بذريعة الاكتفاء بالقرآن الكريم وحده باعتباره الكتاب الذي أنزله الله سبحانه وتعالى على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم ليبلغه للناس، ولكن الجديد في هذا النوع من الإساءة أن بعض أبناء جلدتنا وقومنا وديننا ينادون بها ويدعون إليها، وهنا تكمن الخطورة البالغة، فهذه مؤامرة خبيثة تهدف إلى محاربة دعائم الإسلام وثوابته ذاتياً من خلال أبنائه.

     وبغض النظر عن تاريخ هذه الدعوة وأصحابها الذين يسمون أنفسهم بالقرآنيين زوراً وبهتاناً وليسوا كذلك، وهم الذين يكتفون فقط بما ورد في القرآن الكريم، وربما يقومون في أثناء ذلك بتفسيره حسب أهوائهم وأفهامهم دون الرجوع إلى السنة النبوية والاستعانة بها، وإن رجعوا إلى السنة فهي تبعٌ لقناعاتهم القاصرة يتشبثون بما وافقهم منها، وما لم يوافقهم منها تركوه ونبذوه وراء ظهورهم، بل شككوا في نسبته أصلاً إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، مما يثبت جهلهم الفاضح بالمنهج العلمي الذي اتبعه العلماء المتخصصون في علوم الحديث لتمحيص الأحاديث النبوية وبيان درجاتها. 

     ومن معجزات رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم أنه ذكر هذه الفئة الضالة المضلة وحذّرنا من أصحابها بقوله {يوشك أحدكم أن يكذبني وهو متكئ يُحَدَّثُ بحديثي فيقول : بيننا وبينكم كتاب الله فما وجدنا فيه من حلال استحللناه وما وجدنا فيه من حرام حرمناه، ألا إن ما حرم رسول الله مثل ما حرم الله} رواه الترمذي، فالحديث يقرر أن نبذ السنة اكتفاء بالقرآن هو تكذيب للرسول صلى الله عليه وسلم وهذا كفر صريح، فكيف يكون مسلماً من يردُّ أحاديثَه وينكر سنته، كيف وقد حذر الله تعالى من ذلك بقوله {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} النور 63، كيف وقد قال الله سبحانه في وصف ما يصدر عنه {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} النجم 3-4، فإذا كان القرآن الكريم وحياً متلوّاً فإن السنة النبوية وحي غير متلوٍّ حتى المتواتر منها والثابت ثبوتاً قطعياً، إذن فلا إسلام بدون قبول أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم وقبول سنته المشرفة، ومن ردها أو أنكرها فليس بمسلم.

     ومن خطورة هذه الدعوة تعطيل القرآن الكريم وأحكامه وعدم فهمه كما ينبغي، فالرسول صلى الله عليه وسلم ليس فقط مبلغاً للقرآن الكريم عن ربه عز وجل، بل هو أيضاً موضح لمعانيه ومراميه، والدليل على ذلك قوله تعالى {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ…} النحل 44، فالسنة النبوية إذن ضرورية لفهم القرآن لأنها مبينة وشارحة له، فكثير من الآيات لا يمكن فهمها فهماً صحيحاً على مراد الله تعالى إلا من طريق السنة النبوية، فلا مجال لأحدٍ مهما كان عالماً باللغة العربية وآدابها أن يفهم القرآن الكريم دون الاستعانة بسنته صلى الله عليه وسلم القولية والفعلية والتقريرية، فلم يكن أعلم في اللغة من الصحابة الذين نزل القرآن بلغتهم، ومع ذلك أخطأوا في فهم بعض الآيات الكريمة حين اعتمدوا على لغتهم وحدها حتى وضح صلى الله عليه وسلم لهم معناها الصحيح، فكيف بمن هو غير معتَدٍّ بها ولا ملتفتٍ إليها أصلاً  كما في زماننا ! وبناء على ذلك فمن كان عالماً بالسنة النبوية فهو أحرى بفهم القرآن وأقدر على استنباط الأحكام الشرعية منه.

     ومن أغرب وأعجب وأسخف ما قال بعضهم أن العمل بأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم واجب في حياته فقط أي على الصحابة وحدهم، أما بعد وفاته فالمسلمون مأمورون باتباع أحاديثه المتواترة فقط، وهذا الادعاء يفنّده عموم آيات الطاعة والاتباع ومنها مثلاً قوله تعالى {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} آل عمران31-32، وقال سبحانه أيضاً في السورة ذاتها {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} آل عمران 132، أوجبت هذه الآيات الكريمة طاعة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم من غير تحديد زماني أو مكاني، طاعة تامة كاملة في كل وقت وحين وفي كل زمان ومكان وحال، فهو أمر من الله عز وجل بطاعة رسوله في حياته بما أمر ونهى، وبعد وفاته باتباع سنته، ولم تخصص هذه الآيات ولا غيرها الطاعة في حال دون حال أو مكان دون مكان أو زمان دون زمان.

     ويتذرع هؤلاء الضالون بأنه لا توجد آية في القرآن الكريم تأمرنا بالْتزام الحديث النبوي والسنة النبوية وتطبيق ما ورد فيهما، وهذا يثبت مجدداً جهلهم الفاضح بالقرآن الكريم وآياته، ويؤكد عدم قراءتهم له ؛ بل هم يرددون ادعاءات تُمْلَى عليهم في حملة ترمي إلى تشكيك المسلمين في دينهم، فما أكثر الآيات القرآنية الكريمة التي صرحت بوجوب طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم واتباعه، وسأعرض نماذج منها على سبيل المثال لا الحصر لتفنيد ادعاءاتهم الباطلة :

* قال تعالى {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ…} النساء 64، في الآية الكريمة توجيه عام بأنَّ الرُّسل ما بُعِثوا إلاَّ لِيَكونوا مُطاعين يَتْبعهم النَّاس في كلِّ ما جاءوا به إليهم من ربهم، فيأتَمِرون بأوامرهم، وينتهون عن نواهيهم، وطاعة الأنبياء والرُّسل مُطْلقة لأنَّهم مَعْصومون بعصمة الله تعالى لهم، ولولا هذه العصمة ما أمَرَ الله بطاعتهم طاعةً مطلقة، وتتضمن الآية وجوب طاعة رسول الله محمدا صلى الله عليه وسلم بوصفه أحد رسل الله وآخرهم.

* قال تعالى {…وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} الحشر 7، فالأمر صريح بوجوب أخذ ما جاء به الرسولُ في أمور الدِّين وبالانتهاء عما نهى عنه، فأمره صلى الله عليه وسلم كأمر الله في الاتِّباع، فلا يحلُّ تقديم أيِّ قول بعد قول الله تعالى على قوله صلى الله عليه وسلم، بل رتَّب سبحانه وتعالى في نهاية الآية العذاب الشَّديد على مَن يُخالفه.

* وفي سورة النساء عدة آيات توجب طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} النساء 59، وقال سبحانه أيضاً {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً} النساء 61، فالآية الكريمة اعتبرت الإعراض عن الاحتكام إلى الرسول صلى الله عليه وسلم من علامات النفاق، وقال تعالى مؤكداً ان الاحتكام إلى الله ورسوله من شروط الإيمان {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا} النساء 65، وبين عز وجل أن طاعة الرسول طاعة لله فقال {مَن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَن تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً} النساء 80.

* وفي وصف الرسول صلى الله عليه وسلم في التوراة والإنجيل قال تعالى {…يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ…} الأعراف 157، فالطاعة من لوازم الأمر والنهي  والتحليل والتحريم.

* وفي سورة الأنفال آيات توجب طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد قال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ} الأنفال 20-21، وقال أيضاً {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ…} الأنفال 24.

* قال تعالى {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُّبِيناً} الأحزاب 36، فمعصية الرسول صلى الله عليه وسلم كمعصية الله سبحانه وتعالى هي من سبل الضلال، ولهذا فإن الالتزام بالسنة المطهرة ليس أمراً اختياريا، أو مزاجيا، أو انتقائيا، بل واجب وفرض في المنشط والمكره، في ما نحب وفي ما نكره.

* وفي سورة النور آيات توجب طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال تعالى {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُم مَّا حُمِّلْتُمْ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ} النور 54، فطاعة الرسول بعد طاعة الله هي من سبل الهداية ومعصيته من سبل الضلال، وقال أيضاً {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} النور 56، فأفرد سبحانه في هذه الآية طاعة رسوله وحدها وربطها برحمته.

* وقال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} محمد 33، فمعصية الله عز وجل مبطلة للأعمال الصالحة، ومثلها معصية الرسول صلى الله عليه وسلم.

     إن هذه الآيات الكريمة وغيرها الداعية إلى وجوب طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم ليست فقط لِمُجرَّد السَّرد والمُطالَعة، بل هي قانون ننفذه في حياتنا والتزامات نفي بها وسلوك رتَّب الله تعالى عليه ثواباً لنا في الآخرة أو عقاباً لمن نكل وترك هذه الطاعة، فهل من المتصوّر أن تكون هذه الأوامر الربانية مجرد ألفاظ أو مواعظ؟ أم هل من المتصور أن الصحابة وحدهم مطالبون بتطبيقها ونحن فقط مطالبون أن نتعبَّد الله بتلاوتها؟ 

     فالواجب علينا كمال الانقياد لأوامر الرسول صلى الله عليه وسلم وتلقي أحاديثه بالقبول والتصديق دون تقديم الآراء عليها، وتلقيها بالتحكيم والاحتكام والتسليم والاستسلام والانقياد والإذعان، تماماً كوجوب توحيد الله سبحانه وتعالى بالانقياد والعبادة والخضوع والإنابة.

     والواجب على الأمة جميعاً عدم التفريق بين القرآن والسنة من حيث وجوب الأخذ بهما كليهما معاً وإقامة التشريع عليهما معاً. فهذا هو الضمان لاستقامتها على السبيل وعدم ميلها عنه، لأنه لا يمكن تطبيق القرآن إلا بالرجوع إلى السنة فهي التي خصصت العامّ وقيَّدت المطلق وفصلت الفرائض والأحكام، فأين يجد المسلم في القرآن كيفية الصلاة والحج وتفاصيل الزكاة وأحكام الصيام؟ أم أن هذه التفاصيل تترك لآراء الناس؟

     إن القرآن الكريم هو الآية العظمي والمعجزة الكبرى لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وهو الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه لأنه محفوظ بحفظ الله له، وهو المصدر الأول للتشريع، فهو المقطوع بثبوته من أوله إلى آخره، أما السنة النبوية فهي المصدر الثاني للتشريع والمُبَيِّن للقرآن الكريم، وهي التفسير العملي والتطبيق الواقعي له، ولهذا فقد كان الذبُّ عن الإسلام والدفاعُ عن حياضه ونُصرةُ الدينِ ورسول الله وسنته النبوية واجباً مقدساً وفرضاً محتماً وبالأخص في ظل التطاول المتكرر ضد ديننا ورسولنا صلى الله عليه وسلم.

د. تيسير التميمي

قاضي قضاة فلسطين رئيس المجلس الأعلى للقضاء الشرعي سابقاً أمين سر الهيئة الإسلامية العليا بالقدس

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى