د. سعيد إسماعيل يكتب: لحن تربوي متميز..؟!
في العام الدراسي 1959-1960، عندما كنا نطلب العلوم التربوية والنفسية في تربية عين شمس، بعد تخرجنا من الجامعة، وقُسمنا إلى أربع مجموعات: أ، ب،ج،د، كنت ألاحظ أن أحد الزملاء، ما أن تنتهي هذه المحاضرة أو تلك ويخرج أستاذها، كي نسرع بتبادل الأحاديث،وربما الخروج إلى هنا أو هناك كجري العادة، أن هناك أحد الزملاء لا يفعل ما نفعل، وإنما يسارع بفتح حقيبته كي يخرج منها كتابا أو كشكولا في أحد المقررات كي يذاكر فيه، فيأخذني التعجب، وربما الاستنكار!
كان هذا الزميل هو من عرفت أن اسمه هو «حامد عبد السلام زهران»، والذي أصبح فيما بعد أستاذا بارزا في عالم العلوم التربوية والنفسية، سواء في مصر أو خارجها.
كان الزميل، إذ جاء من قسم الجغرافيا بآداب القاهرة، يشعر أن ما يسمعه ويقرأه من معلومات وموضوعات وأفكار، في العلوم التربوية والنفسية هو عالم غريب تماما بالنسبة إليه، يمثل نقلة مختلفة تماما عما تعود في الجغرافيا، على عكس أمثالنا من خريجي قسم الفلسفة، حيث -عن نفسي- كثيرا ما كنت أشعر بملل واضح لأن معظم ما أسمع وما أقرأ عرفت أضعافه حيث كان قسم الفلسفة يتضمن كذلك دراسة علوم النفس، وبطبيعة الحال لا وجه للمقارنة بين دراسة تمتد طوال أربع سنوات،ودراسة، دبلوم التربية لمدة عام واحد، بينما.
وكما عرفت فيما بعد كان حامد لا يرضى لنفسه إلا بالتفوق والتميز،ومن هنا كان هذا الحرص الذي بدا لي غريبا، شكلا وموضوعا، حيث شعر بأن عليه أن يبذل من الجهد أضعاف ما هو معتاد، وكان ذلك صورة من صور التأسيس العلمي الذي مكنه، فيما بعد أن يصبح قوة بث علمي تربوي أخذت مكانها المتميز في صفوف أبرز العلماء.
وفى الفصل الدراسي الثاني، تزاملنا في مجموعة التربية العملية في مدرسة الأورمان الثانوية النموذجية، فلما حضرنا حصة له، بمشاركة مشرفنا الراحل الدكتور عبد الحميد السيد، لا أخفى كم شعرت بغيرة شديدة، لا لشيء إلا لأنه -دون أن يقصد بنا شرا- عرّانا نحن تخصص تدريس الفلسفة..لقد كانت الحصة التي طُلب منى تدريسها في المنطق، فإذا بموضوعاته تبدو غاية فى التجريد والبعد عن وقائع الحياة،ولم أكن بعد قد أتقنت عملية التدريس بحيث أربطها جيدا بحياة التلاميذ، فسارت يظللها الملل، وتحيط بها علامات شك في جدوى هذا الكلام وعكس ذلك، كانت حصة حامد زهران.
كانت الحصة عن الأقاليم المناخية كما أتذكر، فجهز قبل الحصة خريطة صماء على سبورة إضافية، ثم إذا به يوزع على التلاميذ ورقا لم ندر ما القصد منه، فإذا به يمسك بما يشبه ” النشافة ” المتصلة بما يجعلها أشبه بالختم الكبير تحمل معالم خريطة صماء، أخذ يطبعها على كل ورقة لدى كل تلميذ، ثم أخذ يشرح، وكلما جاء ذكر اتجاه في الرياح، تناول طباشيرا ذا لون يختلف عن هذا وذاك،ورسمه على الخريطة الصماء، وطلب من كل تلميذ أن يفعل الشيء نفسه على الخريطة الصماء المختمومة لديه، فإذا بالحصة تمتلئ حركة وحيوية، وإذا بكل التلاميذ يشاركون في العمل، ويمضى زمن الحصة وكأنه ثوان، حتى لقد شعرنا وكأن جرس الانتهاء قد جاء فجأة بعد دقائق تعد على أصابع اليد !
كانت حصة مبهرة حقا، وعلى النقيض تماما جاءت حصتي، ومن هنا كان تقديره فى التربية العملية كما أتذكر جيدا هو ممتاز وأنا جيد جدا، بل وجاء ترتيبه علينا جميعا (الأول)،وإن كان عدد منا قد شاركه في التقدير العام (جيد جيدا)، حيث لم يكن قاموس النتائج يعرف تقديرا عاما يصل إلى «ممتاز»، المنتشر في السنوات الأخيرة!!
واستطاع حامد أن يقتنص فرصة للسفر في بعثة إلى معهد التربية بجامعة لندن ليعود إلينا حاملا الدكتوراه عام 1966 إذا لم تخني الذاكرة،وكانت المشكلة التي واجهته ضرورة أن يقضى فترة تجنيده في القوات المسلحة، ومن حسن حظه، وفرصة لممارسة ذكائه، أن يكون التجنيد في الكلية الفنية العسكرية، فيستثمر حامد الظروف ويشارك فيما لا أتصور أن شهده التعليم العسكري من قبل، في غير العلوم العسكرية، خاصة وقد تصادف وجود مدير للكلية ذا عقل متفتح حقا.
ففى يوم فوجئت بحامد يطلب منى عام 1970/1971 أن أجئ إلى الفنية العسكرية لأُدَرّس منطق ومناهج بحث لطلاب الكلية !! وفى فترة تالية، طلب منى أن أُدَرّس مادة عما سمى (الشخصية العسكرية)…وهكذا عرفت أن عددا آخر من الزملاء في الكلية، ومن قسمي علم النفس والاجتماع بآداب عين شمس،ومن تربية عين شمس، يشتركون في تدريس مجموعة من العلوم النفسية والمنطقية والاجتماعية،وهى زاوية مجهولة لا أظن أن أحدا يعرف شيئا عن هذه الخبرة النادرة التي لا أعرف لها مثيلا حتى الآن، وأين؟ فى كلية عسكرية!
وعدما دعيت لأن أعمل في كلية التربية بمكة المكرمة كان أحد دوافعي لتفضيلها عن تلبية دعوة أخرى جاءتني من كلية التربية بجامعة الملك سعود بالرياض، هو وجود حامد، حيث كان قد سبقني بعام، مع الراحل د. فؤاد أبو حطب، وكذلك د. حلمي الوكيل، أطال الله عمره، حيث كنت – وما زلت – أعتبر أن حسن الصحبة، وخاصة في الغربة هي كنز لا يقل قيمة عما نتحصله من مال.
توثقت صلتنا بشدة هناك وأصبح أولادي أصدقاء لأولاده وزوجتي صديقة عمر لزوجته، حتى أن هؤلاء كان يعتبرون زيارتنا لهم أو زيارتهم لنا أو خروجنا سويا في عطلة الأسبوع للتنزه فى جدة، أو ذهابنا سويا، عدة مرات،إلى المدينة المنورة، بسياراتينا، قاطعين مئات الكيلومترات، أو تنزهنا في «الطائف» ،وكأن «كلا منها عيد» حقا. وكل عنصر من هذه العناصر يحتاج إلى صفحات طويلة كي أروى ما حدث فيه مما ينم عن نوعية هذا الرجل الذي كان فريدا حقا، متميزا فعلا !
كان لنا زميل هو الدكتور محمد جميل منصور، فإذا بزوجته تجئ قلقة إلى حامد تخبره بأن جميل ذهب إلى جدة منذ أول النهار، وها قد دخل الليل ولم يعد، ولم يكن هناك فى ذلك الوقت ما نتمتع به الآن من وسائل اتصال،وكان يمكن لحامد أن يجيب: وماذا أفعل له؟ لكنه -كعاداته في الشهامة النادرة- شمر عن ساعديه،وكان الوقت قد تجاوز صلاة العشاء وذهب من مكة إلى جدة يبحث عن صديقنا، مثله مثل من يبحث بالفعل عن إبرة في كوم قش ! لكن ماذا كانت النتيجة؟ تصادم حامد صدمة عنيفة في مدخل كوبري وتحطمت سيارته تماما،وأصيب بأضرار جسمية اقتضت علاجا طويلا، ولم يظهر أو يبدى أي مظهر ندم أن قام بمثل هذا التصرف التطوعي!
إنها واحدة مما يصعب حصره من مظاهر ما نسميه «بالشهامة» التي يصعب أن تجدها بمثل هذه الصورة لدى أحد، حتى فى زمنه، فما بالك بأيامنا السوداء الحالية؟
وعندما ترأست رابطة التربية الحديثة منذ أوساط الثمانينيات حتى أوساط التسعينيات، كان حامد هو وكيل الرابطة،وكنت أسافر أستاذا زائرا كل عام لثلاثة شهور، يقوم هو خلالها بالكثير بحيث يظل وهج الرابطة الذي لم يكن له مثيل من قبل ولا من بعد، حتى أنه دفع الثمن غاليا، بكل رضي وأريحية، بسبب ارتباطه بي في الرابطة، فعندما بدأت حرب الدكتور حسين بهاء الدين، بتحريض نفر من أهل التربية، على شخصي وبهدف تدمير الرابطة، أبى حامد إلا أن يقف معي، فإذا به بعد أن أنهى الفترة الأولى لعمادة تربية عين شمس، حيث كان آخر العمداء المنتخبين، لا يُجدد له،ويتم تغييره، وهو الأمر غير المسبوق، وساقوا في تبرير ذلك بعض الترهات، التي يحدث مثلها في كثير من الكليات، ولا يترتب عليها شيء، لكن الحقيقة المرة، هي معاقبة حامد لوقوفه بجانبي في الحرب القذرة التي انتهت بما يشبه تأميم الرابطة وجعلها بوقا للوزير!
ومما يثير الأسى حقا، أن حامد بعد أن لقي ربه، وأُريد عمل حفل تأبين، فوجئت على اللافتة الرئيسية أن الاحتفال يتم بمشاركة رابطة التربية الحديثة، دون أن يتذكر أحد أن حبيبنا الراحل طُرد منها ظلما وبهتانا، لكنه النفاق، أحد القيم المعاصرة الأساسية، حتى ولو كان الموقف يظلله جلال الموت !
في لجنة التربية وعلم النفس بالمجلس الأعلى للثقافة، جاء إخطار بضرورة اختيار نائب للمقرر الذي هو الدكتور عبد السلام عبد الغفار، وترشح البعض منا،وإن انتهى الأمر إلى بروز حامد وأنا مرشحين، فسارعت إلى التنازل، مؤكدا أنني لا أستطيع أن أقف منافسا له، ثم إذا به يفعل الشيء نفسه،وبطريقته الخاصة استطاع أن يؤكد على انسحابه ويصر بحماس غريب ونبل عجيب، كي أكون أنا النائب،أخلاق فرسان لم أكن أعلم أن زمنها لن يعود، إذ بعد عام وبضعة شهور،حيث لم تكن مدة نيابتي التي هي عامان، بالانتخاب قد انتهت بعد، أفاجأ في بداية دورة جديدة بأن تلميذا من تلاميذنا أصبح هو النائب (بالتعيين لا بالانتخاب) من غير سابق علمنا،وعندما قارنت بين فعل هذا وذاك، أدركت إلى ماذا وصلت مصر،لا في التنمية ولا في الصناعة،ولا في الزراعة،ولا في التعليم،وإنما في المنظومة الأخلاقية التي هي لُحمة النهوض الحضاري وسداه الحقيقية !
وكم عجبت عندما عرفت أن لحامد هواية في الموسيقى إلى الدرجة التي جعلته يدرسها في معهد متخصص أربع سنوات ويحصل بناء على ذلك على «دبلوم» ،وكأنه بذلك يشير لنا إلى أن شخصيته، بكل ما فيها كانت «لحنا» متميزا حقا يتسم «بالهارمونية» والتفرد والأصالة، والإبداع.
ولقد انفرد حامد بين أبناء جيله بأن أخرج للعلوم التربوية والنفسية قاموسا متفردا حقا، مع ما نعرفه من وظيفة القواميس بالنسبة للعقل العلمي، حيث يضبط معاني المصطلحات ويدقق مضامين التعريفات، فيستقيم التفكير.
ولذلك، عندما انصرف العظيم الدكتور سيد عثمان عن لجنة التربية وعلم النفس بمجمع اللغة العربية، حيث كنا نتزامل، وسُئلت عمن يحل محل الدكتور سيد،سارعت بترشيح حامد، الذي برهن على أن ترشيحي له لو لم يتم، لكنت بذلك قد أخطأت خطأ فاحشا، ذلك أن جهودا ضخمة كانت قد بذلك منذ العام 1984 لإخراج قاموس في التربية وعلم النفس كجزء ثان، حيث كان الجزء الأول قد ظهر من قبل، فأخذنا نتعاون في إخراج هذا الجزء، حتى تم المراد، صحيح أن الجهد كان «تجميعا» لما تم عبر السنوات الماضية، لكنى أُشهد الله،على أن الجهد الذي بذله حامد في التدقيق والمراجعة كان خارقا، حتى أنى رجوته بإلحاح أن يكف عن المراجعة حيث كان الملل قد بلغ بي أقصى مداه، إلى الدرجة التي لا أستطيع فيها أن أحصى عدد مرات المراجعة.
طالت الأسطر على المساحة المقررة، فاضطررت إلى التوقف، لا لانتهاء الحديث عن هذا اللحن الفريد حقا، فهو يحتاج المزيد والمزيد.
طبت حيا وميتا، يا فارس علوم النفس، نبيل قومنا، يا حامد زهران.