هذا العنوان ليس من بنات أفكاري، وإنما هو من كلمات الأديب الراحل أحمد أمين رحمه الله صاحب فجر الإسلام، وضحى الإسلام، وظهر الإسلام وغيرها من المؤلفات. حيث نشر تحت هذا العنوان مقالاً بمجلته «الثقافة»، في عددها رقم (8.) الصادر في التاسع من يوليو 194.م. وفيه يعترض الكاتب على التعريف المشهور عند أهل المنطق للإنسان بأنه «حيوان ناطق». والذي يَعْنون به أنه مفكر ذو عقل، فليس المراد بالنطق هنا: النطق باللسان، وإنما المراد القدرة على التفكير التي يتولد عنها النطق باللسان.
يقول الكاتب إن المناطقة قد خدعوا بالبريق الذي يلمع في الإنسان من عقل وتفكير، فعرَّفوه بأنه حيوان ناطق. وكذلك خُدع أرسطو بمظهر حب الإنسان للاجتماع، فقال: إنه حيوان مدني بطبعه. ويرى الكاتب أنهم لو أنصفوا جميعًا لقالوا: إن الإنسان حيوان محارب بطبعه. وذلك لأن تاريخ الإنسان من مبدأ خلقه إلى الآن ما هو إلا سلسلة من الحروب والمنازعات، بل لعل ذلك كان معروفاً عنه عند الملائكة من قبل أن يخلق الله آدم عليه السلام، حتى إنهم لما أعلمهم ربهم بأنه جاعل في الأرض خليفة، تساءلوا متعجبين: (أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ). [البقرة: 3.].
ثم يتتبع الكاتب شيئاً من تاريخ البشرية ليثبت أنه كله تاريخ حرب وقتال، من أولِّ قتل ابن آدم الأول لأخيه إلى الحروب المعاصرة، ويقول: (.. اقرأ تاريخ الأمم. فهل ترى إلا تاريخًا حربيًّا، حربًا أيام الحرب، واستعدادًا للحرب أيام السلم، وإحصاءً للجيوش وإحصاءً للقتلى، ووصفًا للخراب، وتسجيلًا لأنواع التنكيل.. كلما استكشف الإنسان مادة من مواد الحياة أو قانونًا من قوانين الطبيعة، استخدمها في تحطيم رأس أخيه وتهشيم جسمه؛ رأى الحجرَ أولَّ ما رأى فاتخذ منه سكينًا وسهاماً، واستكشف الحديد فعمل منه سيوفًا وسنانًا، وأخيرًا مدافع ومصفحات ودبابات، وعرف قوانين الماء فبنى عليها أساطيله وغواصاته، وظهرت له قوانين الهواء فأنشأ عليها مناطيده وطياراته، ووقف على منابع الزيت فأشعلها نارًا على عداته، وهكذا: كلما أنبت الزمان قناةً ركَّب المرء في القناة سهاماً…).
وبعد: فهل ما نحن فيه من اعتداء سافر على أهلنا في أرض فلس**طين المباركة إلا صورة من صور البغي والعدوان، وتأكيد لما ذكره أحمد أمين من أن الإنسان بطبعه مخلوق محارب؟
والحق أنه لا يُلجم نزعات بني آدم العدوانية إلا شريعة الإسلام الغراء، التي لا تغفل عن الطبيعة البشرية وما فيها من نزوع للقتل والقتال، ولكنها تهذبها، بتحويل تلك النزعات العدوانية إلى حرب عادلة تستهدف إقامة الحق والعدل.
ولذلك فإني أتعجب كثيراً من أولئك المنسوبين للعلم الشرعي في بلادنا الذين يصرون في كل مناسبة -وأحياناً بغير مناسبة – على التأكيد على سماحة الإسلام وأنه دين سلم وسلام ينبذ الحرب إلا في إطارٍ ضيقٍ يسمونه الحرب الدفاعية.
والحق أن هذا تسطيح لحقائق الإسلام ومجافاة لأحكامه الثابتة المستقرة القاضية بأن الإسلام كما هو دين السلم والسلام، هو أيضاً دين الحرب العادلة التي تستهدف إقامة الحق والعدل سواء كان ذلك على سبيل جهاد الدفع، أو على سبيل جهاد الطلب، الذي يعنى قصد أهل الكفر ممن بلغتهم دعوة الإسلام في عقر دارهم، متى ما أمكننا ذلك، لا لأجل إكراههم على الدخول في الإسلام، وإنما من أجل توسيع رقعة دار الإسلام، وتأمين وصول دعوة الحق إلى الناس أجمعين، وتخييرهم بين الدخول في الإسلام أو البقاء على معتقدهم مع الخضوع لأحكام الإسلام. وإلا فقولوا لنا لماذا توجه الصحابة رضوان الله عليهم لفتح مصر، وهل رأوا من أهلها ولا حتى من حكامها الرومان أي اعتداء على دولة المسلمين في جزيرة العرب؟
[ذكرنا كثيراً من أدلة ذلك في بعض كتاباتنا السابقة، مثل كتاب: «وقفات مع الدكتور البوطي في كتابه عن الجهاد»، وكتاب: «مراحل تشريع الجهاد: نسخ اللاحق منها للسابق»].
إن جهاد الطلب مشروع في الإسلام لحكمة عظيمة هي أن هؤلاء الأعداء لن يتركونا وإن تركناهم، بل هم دائماً يتحينون الفرصة للقضاء على الإسلام وأهله، فوجب على أهل الإسلام المبادرة بالضربات الاستباقية التي تهدف لإفشال مخططات الأعداء. [تماما كما فعل الأبطال يوم السابع من أكتوبر].
وقد كشف لنا العليم الخبير في كتابه الكريم عما تحمله قلوب أهل الضلالة من عداوةٍ لنا معاشر المسلمين، وبيَّن لنا سبحانه أنهم لا يزالون يقاتلونا حتى يردونا عن ديننا إن استطاعوا، قال تعالى: (ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا) (البقرة: 217).
يقول صاحب الظلال: (وهذا التقرير الصادق من العليم الخبير يكشف عن الإصرار الخبيث على الشر، وعلى فتنة المسلمين عن دينهم بوصفها الهدف الثابت المستقر لأعدائهم، وهو الهدف الذي لا يتغير لأعداء الجماعة المسلمة في كل أرض وفي كل جيل.. إن وجود الإسلام بذاته هو غيظ ورعب لأعداء هذا الدين.. وتتنوع وسائل قتال هؤلاء الأعداء للمسلمين وأدواته، ولكن الهدف يظل ثابتاً أن يردوا المسلمين الصادقين عن دينهم إن استطاعوا، وكلما انكسر في يدهم سلاح انتضوا سلاحاً غيره.. والخبر الصادق من العليم الخبير قائم يحذر الجماعة المسلمة من الاستسلام وينبهها إلى الخطر ويدعوها إلى الصبر على الحرب وإلا فهي خسارة الدنيا والآخرة).
[في ظلال القرآن: 1/227-228].
ثم هذا هو التاريخ شاهد صدق على سلوك الكفار في كل وقت وحين، وأنهم دائماً يتربصون بنا الدوائر ويشنون الحروب كلما أمكنهم ذلك. فإن توقفت حروبهم لفترة فإن أساليبهم الأخرى من الكيد والمكر، وغزو المسلمين في ثقافتهم وعقيدتهم لا تنتهي أبداً.
وهو ما يقتضي من أهل الإسلام أن يكونوا دائماً مستجيبين لأمر ربهم سبحانه في قوله: (وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ). [الأنفال: 6.]. فوالله ما أصاب الأمة المسلمة ما أصابها من تسلط أولئك الملاعين عليها واحتلالهم لأرضها، إلا بسبب بعدها عن شريعة ربها، والتي ذروة سنامها فريضة الجهاد؛ كما قال الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم: (إذا تبايعتُم بالعينةِ وأخذتم أذنابَ البقرِ، ورضيتُم بالزَّرعِ وترَكتمُ الجِهادَ سلَّطَ اللَّهُ عليْكم ذلاًّ لاَ ينزعُهُ حتَّى ترجعوا إلى دينِكُم). [أخرجه أبو داود (3462)، وصححه الألباني].
وبعد: فلعل شوقي رحمه الله كان أحسن فهماً وأدق تعبيراً عن قضية الج/هاد في الإسلام مِن كثيرٍ ممن المنتسبين للعلم، وذلك حين قال في قصيدته “ولد الهدى” مخاطباً الحبيب المصطفي صلى الله عليه وسلم:
الحربُ في حقٍّ لديك شريعةٌ ***ومن السمومِ الناقعاتِ دواءُ
أو حين قال في نهج البردة مدافعاً عن نبي الإسلام مبيناً أن فتح البلدان بالسنان من شريعة الإسلام، ولكن يسبقه فتح الدعوة والبيان:
قالوا غزوتَ ورُسْل الله ما بعثوا **** لقتل نفسٍ ولاجاؤوا لسفك دمِ
جهلٌ وتضليلُ أحلامٍ وسفسطةٌ ** فتحتَ بالسيف بعد الفتح بالقلمِ
لما أتى لك عفواً كلُّ ذي حسبٍ *** تكفَّل السيفُ بالجهال والعَمَمِ
والشر إن تلْقَهُ بالخير ضقتَ به *** ذرعاً وان تلقهُ بالشر ينحسمِ
عبد الآخر حماد
16/9/ 1446هـ- 16/ 3/ 2.25م