قد نبهنا مراراً على خطورة ما يفعله كثير من الناس عند قبور من يعتقدون فيهم الولاية والصلاح، مِن دعاء أولئك المقبورين والاستغاثة بهم، والنذر لهم، ونحو ذلك مما هو شرك صريح مخالف لنصوص الكتاب والسنة.
وكثيراً ما نقف على منشورات وكتابات لبعض أهل التصوف ومَن يدافعون عنهم، فنجد فيها حشداً لأقوال بعض أهل العلم الذين يقولون بجواز التوسل بالأولياء والصالحين.
وهم يزعمون أنهم بهذا يردون علينا وعلى أمثالنا ممن يسمونهم بالوهابية أو أتباع ابن تيمية. ويزيد بعضهم فيتهمنا بأننا نُكفِّر من يتوسلون بالأولياء والصالحين.
وكلامهم هذا فيه تدلييس وخلط كبير بين قضيتين مختلفتين، فنحن حين ننكر دعاء الأموات والاستغاثة بهم، ونَعُدها شركاً، نتكلم عن مسألة أخرى غير مسألة التوسل إلى الله تعالى بذوات الأولياء والصالحين. وبيان ذلك في النقاط الآتية:
1- أول ما نبدأ به هو أن نقرر موافقتنا لأصحاب تلك المنشورات في أن هناك طائفة كبيرة من أهل العلم قد قالوا بجواز التوسل بالأنبياء والصالحين؛ بمعنى سؤال الله بذواتهم، كقول: اللهم إني أسألك بجاه النبي صلى الله عليه وسلم، أو أدعوك بحق فلان، بل هذا هو المشهور عند جمهور المتأخرين من أتباع المذاهب الأربعة، كما في الموسوعة الفقهية (14/ 156).
2- لكننا مع ذلك يجب أن نقرر أن طائفة أخرى من أهل العلم قد منعت من ذلك وحرمته،ويكفي أن ننقل في ذلك رأي الإمام أبي حنيفة وأصحابه، فقد جاء في شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز الحنفي ( 1/ 297) بعد كلام له في منع الإقسام على الله عز وجل: (ولهذا قال أبو حنيفة وصاحباه رضي الله عنهم: يكره أن يقول الداعي: أسألك بحق فلان، أو بحق أنبيائك ورسلك، وبحق البيت الحرام، والمشعر الحرام، ونحو ذلك حتى كره أبو حنيفة ومحمد رضي الله عنهما أن يقول الرجل: اللهم إني أسألك بمعقد العز من عرشك، ولم يكرهه أبو يوسف رحمه الله لما بلغه الأثر فيه).
وتجد مثل ذلك في حاشية ابن عابدين (6/ 398).
كما ذكر الإمام ابن تيمية في قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة (مجموع الفتاوى: 1/ 224) أنه لا يُعرف في مذهب مالك ما يناقض هذا المنقول عن أبي حنيفة.
وأما الإمام أحمد بن حنبل فقد ذكر ابن تيمية في مجموع الفتاوى (1/ 14.) نقلاً عن المروزي في منسكه عن الإمام أحمد بن حنبل أنه أجاز التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم في الدعاء.
3-ونحن وإن كنا لا نرى مشروعية التوسل بذوات الأشخاص، ونرى أن التوسل المشروع هو التوسل إلى الله سبحانه بأسمائه وصفاته، أو بأعمالنا الصالحة، أو بدعاء شخص صالح حي، كما بينت ذلك بأدلته في كتابي المنحة الإلهية (ص: 67)، فإننا لا نقول إن التوسل بذوات الأشخاص شرك. ولا ننكر وجود الخلاف في هذه المسألة، بل نراه من الخلاف السائغ؛ كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (وساغ النزاع في السؤال بالأنبياء والصالحين دون الإقسام بهم، لأن بين السؤال والإقسام فرقاً، فإن السائل متضرع ذليل يسأل بسبب يناسب الإجابة، والمقسم أعلى من هذا، فإنه طالب مؤكد طلبه بالقسم، والمقسم لا يقسم إلا على من يرى أنه يبرُّ قسمه). [قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة ضمن مجموع الفتاوى: 1/ 223]. وكذا ذكر الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في كلام -سيأتي بتمامه بعد قليل- أن هذه المسألة من مسائل الفقه، وأنه وإن كان الصواب عنده أن التوسل بالذوات مكروه، إلا أنه لا ينكر على من فعله، لأنه لا إنكار في مسائل الاجتهاد.
4-وإذن فمشكلتنا الكبرى ليست مع القائلين بجواز التوسل بالأنبياء والأولياء، وإنما هي مع أولئك الذين يتوجهون إلى غير الله تعالى بالدعاء وطلب قضاء الحاجات وتفريج الكربات.
والخلط المتعمد بين القضيتين هو الذي يورث البلبة عند العامة، ويفتح للناس باب الوقوع في الشركيات.
فإذا كان الخلاف في مسألة التوسل وارداً كما أسلفنا، فإننا لا نعلم أحداً من أهل العلم مِن سلف هذه الأمة، ولا من سار على دربهم، يجيز دعاء أولئك المقبورين وسؤالهم قضاء الحاجات وتفريج الكربات. وكيف يجيز عالم ذلك، والله سبحانه يقول: (وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا) [الجن:18]. وقال تعالى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ * وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:٧٩ – ٨٠].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية تعليقاً على هذه الآيات: (فبيَّن سبحانه أن اتخاذ الملائكة والنبيين أرباباً كفر.
فمن جعل الملائكة والأنبياء وسائط يدعوهم ويتوكل عليهم، ويسألهم جلب المنافع ودفع المضار، مثل أن يسألهم غفران الذنب، وهداية القلوب، وتفريج الكروب، وسد الفاقات، فهو كافر بإجماع المسلمين). [مجموع الفتاوى: 1/ 124].
وللشيخ محمد بن عبد الوهاب كلام واضح جداً في التفرقة بين قضية التوسل وقضية الاستغاثة، وذلك جيت يقول: ( قولهم في الاستسقاء: لا بأس بالتوسل بالصالحين، وقول أحمد: يتوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم خاصة، مع قولهم إنه لا يستغاث بمخلوق، فالفرق ظاهر جداً، وليس الكلام مما نحن فيه، فكون بعضٍ يرخِّص بالتوسل بالصالحين وبعضهم يخصُّه بالنبي صلى الله عليه وسلم، وأكثر العلماء ينهي عن ذلك ويكرهه، فهذه المسألة من مسائل الفقه، ولو كان الصواب عندنا قول الجمهور إنه مكروه، فلا ننكر على من فعله، ولا إنكار في مسائل الاجتهاد، لكن إنكارنا على من دعا المخلوق أعظم مما يدعو الله تعالى، ويقصد القبر يتضرع عند ضريح الشيخ عبد القادر أو غيره يطلب فيه تفريج الكربات، وإغاثة اللهفات، وإعطاء الرغبات، فأين هذا ممن يدعو الله مخلصاً له الدين لا يدعو مع الله أحداً، ولكن يقول في دعائه: أسألك بنبيك، أو بالمرسلين، أو بعبادك الصالحين، أو يقصد قبر معروف أو غيره يدعو عنده، لكن لا يدعو إلا الله مخلصاً له الدين، فأين هذا مما نحن فيه؟).(مجموع رسائل الشيخ محمد بن عبد الوهاب: 2/ 41).
5-والقول بأن دعاء أهل القبور والاستغاثة بهم شرك، ليس من بنات أفكار ابن تيمية ومحمد بن عبد الوهاب، وإنما قال به غيرهما من أهل العلم قديماً وحديثاً. قال العلامة أحمد بن علي المقريزي الشافعي المتوفي سنة 845هـ، في كتابه تجريد التوحيد المفيد (ص 52): ( وشرك الأمم كله نوعان: شرك في الإلـهية وشرك في الربوبية، فالشرك في الإلـهية والعبادة هو الغالب على أهل الإشراك، وهو شرك عُبَّاد الأصنام، وعباد الملائكة، وعباد الجن، وعُباد المشايخ والصالحين الأحياء والأموات، الذين قالوا (إنما نعبدهم ليقربونا إلى الله زلفي)، ويشفعوا لنا عنده، وينالنا بسبب قربهم من الله وكرامته لهم قربٌ وكرامةٌ، كما هو المعهود في الدنيا من حصول الكرامة والزلفي لمن يخدم أعوان الملك وأقاربه خاصته).
وقال العلامة صنع الله بن صنع الله الحلبي الحنفي المتوفي سنة 112. هـ، في كتابه: سيف الله على من كذب على أولياء الله (ص15 وما بعدها): (هذا وإنه قد ظهر الآن فيما بين المسلمين جماعات يدَّعون أن للأولياء تصرفاتٍ في حياتهم وبعد الممات، ويستغاث بهم في الشدائد والبليات، وبهممهم تنكشف المهمات، فيأتون قبورهم، وينادونهم في قضاء الحاجات، مستدلين على أن ذلك منهم كرامات!…وهذا كما ترى كلام فيه تفريط وإفراط، وغلو في الدين بترك الاحتياط، بل فيه الهلاك الأبدي، والعذاب السرمدي، لما فيه من روائح الشرك المحقق، ومصادرة الكتاب العزيز المصدَّق، ومخالفة لعقائد الأئمة، وما اجتمعت عليه هذه الأمة ).
6-وقد نشرت في مقالات سابقة نصوصاً لعدة من علماء الأزهر: كالشيخ محمد عبده والشيخ محمود شلتوت،والشيخ حسن مأمون،والشيخ محمد الغزالي وغيرهم، وكلها بحمد الله تنعى على أولئك الذين يتوجهون إلى أهل القبور بالدعاء والاستغاثة وطلب الحاجات. وأزيد اليوم ما وجدته للعلامة الشيخ محمد أبي زهرة في كتابه “العقيدة الإسلامية كما جاء بها القرآن الكريم” ( وهو هدية مجلة الأزهر لهذا الشهر شوال 1446هـ )،حيث عقد ابتداء من ص: 136 فصلاً بعنوان: لا وساطة بين العبد وربه،قال فيه: ( لا وساطة بين الله تعالى وعباده…فلا يدعى سواه ولا يستعان في أمر الآخرة سواه.فليس ثمة قديس يتقرب به إلى الله تعالى، إنما يتقرب العبد إلى الله تعالى بالضراعة إليه وبالطاعة له سبحانه، وبالعمل الصالح: ( إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه ) فاطر: 1.، فلا وساطة بقديس ولا رجل صالح وإنما العمل هو الذي يقرب إلى الله تعالى زلفي..). بل إنه رحمه الله يقرر أنه لا يجوز التوسل بالأولياء والصالحين، وذلك حيث يقول (ص: 139-14.): ( والمسألة التي اختلفت فيها الأنظار هي توسيط بعض الصالحين في الدعاء،بأن يقول الداعي: بحق فلان أو بمقام فلان اتجه إليك، وإنَّ ظاهر النصوص أن هذا التوسط لا يجوز ؛ لأن الله تعالى يقول: ( ادعوني أستجب لكم ).[ غافر: 6.]، ولأن الله تعالى يقول:: ( فإني قريب). [البقرة:186]. وأن الله تعالى أولى بعبده –ولو عاصياً- من غيره، ولأن الدعاء مخ العبادة، والعبادة لا يتوسط فيها أحد. ولكن أيُعدُّ الداعي بجاه أحدٍ مشركا قد أتى بما يخالف الوحدانية؟ ونقول في الجواب عن ذلك –مع أننا لا نرضى بأمثال هذه الصِّيغ من الدعاء-: إن القائل إنْ قصد مجرد التكريم للصالحين من غير أن يشركهم في عبادته سبحانه، لا يمكن أن يكون قد أشرك،ومن يرميه بالشرك فهو الذي لا يحتاط لدينه، ونقول إن الأولى الاتجاه إلى الله تعالى فهو أقرب إليه من حبل الوريد، وذِكرُ الله وحده في الدعاء زلفي إليه لا يتركها، ولأن الدعاء ذاتَه عبادة لا يُوسِّط فيها أحداً بينه وبين ربه ). ونحن بحمد الله لم نقل بأكثر من هذا الذي قاله الشيخ أبو زهرة رحمه الله. هذا والله تعالى أعلى وأعلم.
عبد الآخر حماد
18/ 1./ 1446هـ- 17/ 4/ 2.25م