أقلام حرة

د. عبد الرحمن بشير يكتب: الناس والقراءة في زمن التصحّر الفكري

القراءة ليست حاجة من حاجات الناس كما يقول بعض المثقفين، وليست ترفا كما يحسب بعض الطلبة، كما أنها ليست تسلية، أو هواية كما يكتب غالب الناس في السير الذاتية، إنها حياة كاملة، من يعيش بدون قراءة، يعيش حياة بدون تجربة، ومن يقرأ قليلا، فتجربة حياته قليلة، ومن قرأ نوعا من الثقافة فقط، لديه تجربة واحدة من الحياة، ومن قرأ لمفكرين ومثقفين من حقبة زمنية فقط، فإنه ينقل إلى عقله تجربة تلك الحقبة فقط.

الداعية الذى لا يقرأ، فإن كلامه يصبح مع الزمن مملّا، ويكون عبئا، ويصبح جمهوره يفهمون ماذا سيقول؟ والغريب أن بعض الدعاة لديهم مشكلة مع الكتاب، فهم يتكلمون كثيرا، ولكنهم يقرؤون قليلا، أو ينقلون يعض الأفكار من الكتب بدون غربلة، أو بدون نظرة ذاتية، وقد وجدت بعضهم في عشر سنوات متتالية لا يجددون خطابهم، والسبب الأساسي يكمن عدم القراءة.

الإعلامي الذي لا يقرأ تجده بسيطا في طرح الأسئلة، بل وتصبح الأسئلة واحدة، ومكررة، ويوجه للمفكر أسئلته التي وجهها للسياسي، فلا فرق بين الأسئلة، لأنه يعتقد أن دوره كصحفي يتحدد فى إلقاء السؤال فقط مهما كان، ومن هنا، نعرف الخطيئة الإستراتيجية التي نقع فيها، وبعضنا يحسب أن الصحافة كلام في كلام، وأن الإعلامي يتكلم بلا حساب، المسألة ليست في قوة الحنجرة، بل هي في قوة العقل، والعقل لا ينمو بدون قراءة.

الصحافة تنشر الثقافة، وتنتقد الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وتحارب الأفكار المنحرفة بأفكار سوية، فكيف يلعب الصحفي هذا الدور المحوري بدون قراءة مركزة؟

الفنان الذي لا يقرأ، يكرر نفسه وذاته في عمليات مختلفة، من لم يقرأ مسرحيات شكسبير، أو تولتستوي، أو لم يقرأ روايات فولتير، ونجيب محفوظ، ومن لم يقرأ أفكار الأدباء الكبار فى العالم، ماذا يقول للناس؟ إنه يحسب أن الفن يعنى الغناء، أو إضحاك الناس، أو التعيّش به، وهكذا، نجد اليوم أن الفن يمر فى مرحلة أزمة، بينما كان يوما ما يعيش فى قوة، لأن أهل الفن كانوا يقودون الناس من خلال الفن الملتزم.

القيادي الذى لا يقرأ، كيف يقود مجتمعا كاملا نحو الحضارة والتقدم؟ وكيف يعرف المشكلات؟ وكيف يفرق بين الفكر السياسي والمهارة السياسية؟ وكيف يعرف الجغرافيا السياسية؟

نحن اليوم نعيش مع قيادات يشكون في أغلبهم الأمية السياسية، والمشكلة ليست ما لديهم من شهادات عليا، ولكنها تكمن في غياب القراءة النوعية، والقراءة الإستراتيجية، ومن هنا نجد التشابه ما بين السياسي المتعلم، والسياسي الجاهل، ولهذا نعرف لماذا يبدأ السياسي الناجح في البلاد المتقدمة حياته فى الصباح قراءة الصحافة، ثم يقرأ التقارير المكتوبة المقدمة من جهات مختلفة مع القهوة الصباحية، وبعد ذلك يبدأ عمله، ولكنه يتوقف عن العمل فى الأوقات الحرجة ليقرأ الأقصوصات التي عمل بها كبار المثقفين عن بعض الكتب المهمة، إنها قيادة نوعية، ويعيشون مع قراءات نوعية.

فى بلادنا، يبدأ السياسي حياته بالكلام، وينتهي بالكلام، ويستمع قليلا، ويتكلم كثيرا، ولدينا من يستمع كثيرا، ويتكلم قليلا، المهم، لا قراءة لديهم، بل الأساس عندنا هو الكلام، فالكتب الموجودة في رفوف مكاتب بعض الساسة عندنا هي للزينة، وليست للقراءة، هل نحن نعيش مع ظاهرة الهروب من العلم والفكر؟ ثم نطالب من السياسي أن يوجد للشعوب المسكينة الحل، ففاقد الشيء لا يعطيه.

كان الشيخ الغزالي، صاحب الإحياء رحمه الله يقرأ أكثر مما يكتب، وكذلك ابن تيمية، وابن القيم، هكذا كنا سادة في العالم، لأننا كنا أكثر قراءة وفهما، ولأن الوحي بدأ بقوله تعالى (اقرأ)، واليوم تتحدث بعض التقارير أن المسلمين يقرؤون في العام كله (نصف) صفحة، بينما الأمريكي يقرأ أكثر من عشرين كتابا، وهذا هو الإنسان العادي، أما الباحث فقد يقرأ في العام أكثر من (مائتي) كتاب، وهذه إحصائيات رسمية، وقد سألت قريبا شبابا متدينين يعيشون في أمريكا، كم كتابا قرأت في هذا العام، ونحن نعيش في منتصفه، فأجاب غالبية من كان حاضرا معنا في المناقشة بأنهم لم يكملوا كتابا واحدا، ومن هنا انتابني الخوف من المستقبل لهذه الأمة، سواء كانوا في الغرب أو في الشرق.

القراءة حياة، فلا حياة لمن لا يقرأ، ولهذا لا أستطيع أن أفهم بعض الناس حين يتناولون قضايا معقدة بعقول بسيطة، لأنهم لا يبحثون عن المشكلة من العمق، ولا عن أسبابها، ولا كذلك عن جذورها، إنهم يحبون الكلام كهواية فقط، فكيف يمكن للداعية أن يتكلم بدون بحث؟ إنه لا يحترم عقله، ولا يحترم عقول الناس.

القراءة حياة، فلا نهضة بدون قراءة، ولا تقدم بدون قراءة، لأن الله قال (اقرأ وربك الأكرم) الكرم الرباني لمن يقرأ أكثر، وليس فقط لمن يعمل أكثر، والذين لا يقرؤون يعيشون حياة واحدة، وحياة طبيعية، وبدائية، ونوعية حياته لا تختلف مهما عاش طويلا، أو غير المكان، فالزمان والمكان عنده سواء، ومن هنا، يحب أن نقرأ، وليس فقط القراءة، بل القراءة النوعية والإستراتيجية.

د. عبد الرحمن بشير

داعية ومفكر إسلامي، من جيبوتي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى