د. عبد الرحمن بشير يكتب: الهجرة فعل وإنجاز.. «درس للقيادات الدعوية في القرن الأفريقي»
لقد تعلم الناس سابقا، وخاصة المسلمون بأن الهجرة النبوية خروج من الوطن (مكة)، وهروب من الظلم (سادة قريش)، وذهاب إلى الغربة (المدينة)، وهذا يفسر الهجرة عملا سلبيا، بل وعدميا في بعض وجوهه، ولكن حين نقرأ السيرة النبوية، وما تحقق بعد ذلك من أعمال وإنجازات، بل وما صاحب الهجرة من تخطيط وتنظيم نعرف أن أكبر عمل قام به الرسول عليه الصلاة والسلام في حياته كانت الهجرة، ولهذا كانت لحظة فاصلة بين مرحلتين، مرحلة الاستضعاف الكامل، ومرحلة التمكين للفكرة ورجاله.
إن الإسلام ليس دينا فقط يقنع الضعفاء، ويحميهم من الذوبان، ويبحث لهم ملاذا روحيا آمنا، وليس الإسلام كذلك طقوسا دينيا من شأنه الاستمتاع بالأذكار الروحية، وببعض الأوراد الدينية، ولو كان كذلك، لبقي في مكة، وفي بعض أوديتها يمارس الأتباع لهذا الدين تلك الطقوس، ويعيشون كغيرهم من أتباع الديانات التي توصف بأنها روحانية صرفة، ولا تملك المشروع، ولهذا، رفض النبي القائد عليه الصلاة والسلام العيش في أفضل البقاع بدون برنامج، وأن يمارس الدين بدون دولة، وأن يعيش في عالم الروح بدون قوة، وأن يبقى سلبيا أمام الجبروت المحلي والعالمي.
ليس من العبث أن يكون بداية التقويم الإسلامي الهجرة، وليس غيره، وليس من العبث أن يؤرخ عمر بن الخطاب للتقويم الهجري ليكون علامة فارغة في تاريخ الأمة في مرحلة التأسيس، فالهجرة فكرة قبل أن تكون واقعا، ومن هنا، قرأنا في بداية الوحي قوله تعالي (والرجز فاهجر)، فالرجز ليس موقعا، ولا مكانا، بل هو عمل مشين يجب الانفكاك عنه، ويجب على القيادات الدعوية أن يتحركوا من مواقع (الرجز) ليكونوا أهلا للقيادة، وليكونوا ناجحين في العملية التربوية، فلا نجاح للدعوة بدون سلوك قويم، ولا يتم إنتاج سلوك قويم بلا رسالة قوية، ولا يمكن أن تنجح الرسالة بدون رجال يؤمنون بها، ويضحون في سبيلها.
إن من أعظم الدروس في الهجرة النبوية الخالدة (التخطيط والتنظيم)، فقد خطّط نبي الإسلام عليه الصلاة والسلام في إنجاح المهمة الخالدة لبناء أول وأهم دولة في التاريخ، ولولا هذه العملية التاريخية لبقيت فكرة الدولة في الإسلام جنينية وحلما وفكرة فقط، ولكن النبي القائد فكر وقدر، خطط وعمل، نظم ونفذ، ونظر إلى العالم من وراء حدود مكة، فذهب إلى الطائف، وعاد منها دون فائدة كبيرة للدعوة، وتواصل مع قيادات الحجاج الذين يفدون إلى مكة كل عام من العرب حيث ناقش معهم، وأوصل فكرته، ولكنه لم يحصل التفاهم منهم، ولم يجد كذلك من هؤلاء الحاضنة السياسية لمشروعه، ومع ذلك، لم يتوقف عن المسير، ولم يستسلم للنظرية (الواقعية) المريرة بأن العالم أكبر منه، وأن الظروف ليست لصالحه، بل واصل العمل ليلا ونهارا دون أن يفقد (الفكرة المركزية) لرسالته، حتى التقى بوفد المدينة (الأوس والخزرج)، ومن خلالهم تحقق الهدف، فكانت البيعة الأولى في العقبة، ثم رجع الوفد من العام التالي، فكانت البيعة الثانية، تلك البيعة التي من خلالها تحقق الهدف الكبير، وليس الأكبر، فالدولة هدف كبير وأساسي، ولكن صناعة النهضة، وبناء الحضارة للأمة أكبر من ذلك، وهي الوصول إلى مرحلة (الشهود الحضاري)، وأخرجت الدولة الرسالة من لحظة الفكرة إلى لحظة التنفيذ، ومن عالم البحث عن الحلم إلى عالم البناء.
أن أكبر نتيجة للهجرة بلا ريب (بناء الدولة)، وقيام المشروع النهضوي للأمة فيما بعد، فالدعوة تبدأ من عالم الفكرة، وتمر في عالم المؤسسات، ولا تنتهي عند بناء الدولة، ولكن الدولة كمشروع سياسي يحرك الدعوة من عالم التنظير إلى عالم الواقع، ومن عالم الأحلام إلى عالم العمل، ومن عالم الإجابة عن السؤال (لماذا؟) إلى عالم الإجابة عن السؤال (كيف؟)، ولهذا وجدنا في السيرة النبوية أعمالًا كبيرة تمّ تنفيذها وبسرعة، وبدون توقف في ما بعد الهجرة، ومنها، بناء المسجد النبوي، ذلك المقام الديني والسياسي، وقد مثّل أهم مشروع نبوي في ما بعد الهجرة، ثم لاحظنا مشروع (الإخاء) العام بين المجتمع، وهو المشروع الذى جعل الأمة حقيقة وواقعا (محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار، رحماء بينهم، تراهم ركعا سجدا، يبتغون فضلا من الله ورضوانا، سيماهم في وجوههم من أثر السجود)، ولم يتوقف النبي القائد عند هذا الحد، بل كتب الوثيقة النبوية، أكبر وأهم دستور في حياة المسلمين، ثم أسس الرسول عليه الصلاة والسلام السوق الخاص للمسلمين، وبهذا اكتمل بناء الدولة في هذه المرحلة الحرجة من تاريخ الأمة.
إن النجاح مرتبط بأمرين، وجود الرؤية الشاملة، ووجود الحرفية القيادية (أولو الأيدي والأبصار) فلا نجاح للأمة في نضالها بدون رؤية، والرؤية تحدد لها إلى أين، ولماذا؟ بينما الحرفية القيادية تحدد لها كيف؟ ومتى؟
حين لا تملك الأمة قيادة بهذه المواصفات تبقى في مربع واحد، بل تتخلف وتتراجع، ولهذا يؤكد بعض المتابعين في مسارات الأمم والشعوب أن العمل بدون فكرة يعنى غياب الرؤية، وأن العمل بدون خطة واضحة للخروج من الأزمات يعنى غياب (الحرفية) القيادية، فالدعوات التى تعيش في لحظات الضعف طويلا تترهّل، والدعوات حين تفقد الحماس الشديد للفكرة تذبل، ولهذا فلا بد من التفكير الدائم في الخروج من أزمة (الضعف)، والبحث عن إمكانية الخروج من لحظات التراجع، وعدم القبول للواقع الذي يفرض عليها من قبل أعدائها، وكل ذلك يتم وفق السنن الغلّابة، ومحاربة السنن بالسنن، ويجب أن يتقدم العلماء والمفكرون في العمل الدعوي تقديم البرامج، وطرح الأفكار، وكيفية الخروج من لحظات البقاء في مرابع (الضعف)، لأن البقاء يعنى السكون، والسكون دليل الموت، وليس دليل الحياة، ذلك لأن البعض يحسب بأن السكون يعنى الاستقرار، والاستقرار يعنى بداية النهضة.
إن أفضل القيادات في عالم التغيير تلك التي تعيش في القلق المنهجي، ويطرح أصحابها الأسئلة، ويبحثون عن الأجوبة، ولكن القيادات المترهلة تعيش بلا قلق، وتبحث عن الاستقرار، وتطرح أسئلة البحث عن (الملاذ) الآمن، ولا ترى غير ذلك، بينما القائد الحقيقي يرى ما لا يراه الآخرون، ويحاول أن يرى المستقبل على أكتاف العمالقة، ولا يتوقف عن العمل، فالقيادي الذي يعمل وفق الخطة فهو إداري، وليس قياديا، ذلك لأن الإداري الناجح هو الذي ينفذ الخطة، وليس الذي يبدع ويرى، ذاك من أعمال القيادة.
ليس قائدا من يخاف من الفشل، وليس قائدا من يخاف من مواجهة الذات والآخر، وليس قياديا من يدير الجلسات ولا يبدع،وليس قياديا من يقبل أن يبقى تحت رحمة العدو، ولا يضع مشروع الخروج من ورطة العدو، أو يبحث عن لحظة الاسترخاء الأبدي في عالم الصراع والتدافع.
أما بعد :
إن العمل الدعوي في القرن الأفريقي يعانى من مشكلات بنيوية، ومن أزمات فكرية عميقة، بل ومن أزمة غياب القيادات والقدوات في الواقع الدعوي والفكري والسياسي، ولهذا فلا بد من هجرة من عالم (الكلّ) إلى عالم (الفاعلية)، ومن عالم (الاتكالية) إلى عالم (الفعل والإنجاز)، ومن عالم (السكون) إلى عالم (الحركة)، وأهم درس في هذا المجال هو البحث عن البديل المتاح، والعمل في صناعة البديل إن لم يكن متاحا من طرف الخصم السياسي، والبديل ليس موجودا في أي مكان آخر، بل هو موجود في السيرة النبوية الخالدة بشكل حصري حيث الإنسان الأنموذجي للبشرية، والجيل الفريد، وحيث التجربة النبوية الفريدة المتحركة في أرض الواقع، ومن أهم الدروس في السيرة النبوية الخالدة، وخاصة في الهجرة، التجديد، وعدم الاستسلام، والحركة المستمرة في كل الظروف، وعدم السكون، والبناء الداخلي المتين، وعدم القبول للواقع كما هو.
هنا في القرن الأفريقي سكون دعوي غير عادي، وتراجع في الخطاب الدعوي من السقف العالي إلى مكان سحيق، ومن هنا يجب طرح المشروع الدعوي على الأمة، وليس فقط كمشروع وعظي مؤقت، ولكن كمشروع متكامل يستجيب للمرحلة التي تمرّ بها الأمة في هذه اللحظات التى تشبه (مراحل قبل الهجرة)، وهذا لا يعنى فقهيا أن نتحول من مربع ما بعد التشريع إلى مربع ما قبل التشريع، ولكن أن نعيش روح المرحلة، وفقه المرحلة سياسيا، وأن نجدد الفقه، ونطوّر الفكرة، ونستعدّ للإقلاع الحضاري من جديد.