د. عبد السلام البسيوني يكتب: منهج التلقي عند السلف رضي الله عنهم
بعد أن ظهرت دعاوى، وتطاولت ألسنة، وتشدق جرآء، مطالبين بإلغاء أسماء، وحرق كتب، وتبديع مشايخ، وتكفير رموز!
وبعد أن ظهرت عبارت نارية في (الجرح والتعديل) المعاصرين! مثل كلب ابن كلب خنزير ابن خنزير، وفلان أشد خطرًا على الإسلام من اليهود والنصارى، والكلب العاوي، وأشباه هذه السخافات التي تنم عن جهل وقلة ورع، واستباحة لِـلّحوم المسمومة..
إزاء هذا يلزمني -وأستغفر ربي- أن أضع إضاءات ومعالم لمنهج التلقي عند السلف الصالح، وهي ملامح أرجو أن يرتضيها، ويقرها كل من يدعون للإسلام:
** إن من أسس منهج التلقي عند السلف رضوان الله عليهم: أن كل إنسان يؤخذ من كلامه ويترك غير رسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنه يخطئ ويصيب!
فالعصبية للنفس، أو الفكر، أو الجماعة، أو الفرد -بشكل مطلق- ليست من العدل، ولا من العقل، ولا من صالح الدين، والعصمة ليست إلا للمصطفى صلى الله عليه وسلم، ولم يدعها أحد من السلف حتى أسبغها -بلسان الحال- على شخص أو تيار أو جماعة.
وهذا البلاء يكاد يكون مصيبة الإسلاميين كلهم -كلهم لا أستنثي تيارًا واحدًا- إذا تحدثوا عن أنفسهم أو انتماءاتهم، واقرأ ترَ ما يُغثي، ويجلب الصداع.
ومثل هذا الفهم يجعل صاحبه جريئًا، مغترًّا، مستهينًا بالناس: أرواحًا، وأعراضًا، وحقوقًا، والعياذ بالله تعالى من ذلك كله!
** وإن من أسس التلقي عند السلف رضوان الله عليهم: الحكم على الأقوال لا على الرجال، وعلى الألفاظ لا على النيات، فأمر النيات موكول إلى الله تعال، الذي يعلم السر وأخفى، فرب قائل كلمة شديدة المعنى قبيحة المدلول، يملك من حسن النية ما يشفع له عند الله تعالى، كذلك الذي قال: (اللهم أنت عبدي وأنا ربك) وكالذين قالوا: (اجعل لنا ذات أنواط) وكالذي قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (ما شاء الله وشئت) فوقع التصحيح، ولم يقع التلاوم والتكفير.
ورحم الله الإمام القرشي العظيم محمد بن إدريس الشافعي، حين مرض رحمه الله، وأتاه بعض إخوانه يعوده فقال للشافعي:
قوى لله ضعفك، قال الشافعي: لو قوى ضعفي لقتلني!
قال: والله ما أردت إلا الخير!
فقال الإمام: أعلم أنك لو سببتني ما أردت إلا الخير!
** وإن من أسس العمل عند السلف رضوان الله عليهم: أن نتأول كلام المسلم الذي قد يوهم ما لا يجوز، ونحمله محامل حسنة -ما استطعنا إلى ذلك سبيلًا- هروبًا من تكفير المسلم، أو إباحة دمه، أو تعريضه لما يمكن ألا يكون قد قصده.
والخطأ في العفو خيرٌ -ألف مرة- من الخطأ في العقوبة؛ وإلا كانت هناك فرصة شيطانية للولوغ في الدماء، وعَرض أمة محمد كلها على النطع والسيف، لأنه لا أحد منها معصومًا بعد النبي صلى الله عليه وسلم.
وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا رسول الله، الذي علم المسلمين حُسن الظن، فقد جاءه رجل يقول: إن امرأتي ولدت غلامًا أسود. فقال النبي صلى الله عليه وسلم:
هل لك من إبل؟
قال الرجل: نعم.
قال صلى الله عليه وسلم: فما ألوانها؟
قال: حُمْرُ.
قال صلى الله عليه وسلم: هل فيها من أورق؟ [يعني: فيه سواد]!
قال الرجل: إن فيها لوُرقًا.
قال صلى الله عليه وسلم: فأنى أتاها ذلك؟
قال الرجل: عسى أن يكون نزعه عِرْقٌ.
قال صلى الله عليه وسلم: وهذا عسى أن يكون نزعه عِرْق [ الصحيحان].
** وإن المناصحة والمناقشة والتحاور ضرورية لتطهير النفوس، وإزالة الشبهات، فأنت مع أخيك المسلم إما أن تصحح له، أو يصحح لك.
أما أن يرى أحدهم نفسه صوابًا مطلقًا، ويرى الآخرين جهلًا وخروجًا وانحرافًا مطلقًا، فهذا منهج تكفيري، سقط فيه بعض من أدعياء السلفية، نعوذ بالله من شره.
** وإن منهج اجتزاء سطور، أو كلمات موهمة من سياق عام -في كتاب أو في خطبة- للحكم على شخص من الأشخاص -دون تأمل منهجه كاملًا- يوقع حتمًا في التكفير والظلم.
وهذا من أشنع ما يؤول إليه أمر الأمة، وهو الذي جرّ عليها في السنين العشرين الأخيرة من الويلات والبلايا ما لا يعلمه إلا الله تعالى، مما لا تقر به عيون أهل الحق، السالكين على الصراط المستقيم.
وإننا لو أعملنا هذا المنهج، وأشهرنا سيوف التكفير، وعدنا للكتب القديمة المحترمة التي تلقتها الأمة بالقبول، لم نعدم ألفاظًا أو جملًا في كتب علماء كبار كابن حجر، والعيني، والنووي، والذهبي، والسيوطي، وابن العماد وغيرهم هي أشد كثيرًا مما قاله المرحوم الأستاذ سيد قطب -مثلًا- الذي يطالب بعضهم بحرق كتبه، فهل نكفرهم؟
إنها -إذن- لإحدى الكبر.
لقد أسرتني كثيرًا كلمة موفقة، كتبها الرجل الموفق د. أبو بكر زيد عضو هيئة كبار العلماء بالسعودية ورئيس مجمع الفقه الإسلامي -رحمه الله تعالى ورضي عنه- مدافعًا عن الشيخ سيد قطب رحمه الله قال فيها:
اعتبر -رعاك الله- حاله بحال أسلاف مضوا، أمثال أبي إسماعيل الهروي والجيلاني، كيف دافع شيخ ابن تيمية رحمه الله تعالى عنهما؛ مع ما لديهما من الطوام؛ لأن الأصل في مسلكهما نصرة الإسلام والسنة.
وانظر منازل السائرين للهروي -رحمه الله تعالى- تَرَ عجائب لا يمكن قبولها، ومع ذلك فابن القيم -رحمه الله تعالى- يعتذر عنه أشد الاعتذار ولا يجرمه فيها، وذلك في شرحه: «مدارج السالكين» مع الفارق الكبير بين منهج «السيد» ومنهج الهروي والجيلاني!
سرتني هذه الكلمات بقدر ما آذتني كلمات أخرى وردت في إطار دعوى مدخلية (لا سلفية) تصف الأستاذ السيد -رحمه الله- بالكفر والمروق والضلال، والقول بوحدة الوجود وخلق القرآن، وغير ذلك من السخافات التي لا يقوم عليها دليل ولا يؤيدها برهان.
** ومن أسس التلقي عند السلف رضوان الله عليهم تلقي الحكمة من الحكيم بيقظة ووعي، مع الانتباه إلى أنه ربما تورط -بقصد أو بغير قصد- في (زيغة) أي في شعبة من الضلال (في الرأي) اقتضاها التعجل في الفتوى، ولا أستبعد الهوى أو العصبية أو الكبر أو غير ذلك.
وقد حذرنا سيدنا الصحابي الجليل معاذ بن جبل رضي الله عنه في وصية عجيبة ملهَمة كما في سنن أبي داود: «وأحذِّركم زَيْغَة الحكيم؛ فإن الشيطان قد يقول كلمة الضلال على لسان الحكيم»!
قال الراوي: قلت لمعاذ: وما يدريني يرحمك الله أن الحكيم قد يقول كلمة الضلالة؟
قال: بلى! اجتنب من كلام الحكيم المشتهرات، التي يقال فيها: ما هذه؟ ولا يثنك ذلك عنه؛ فإنه لعله أن يراجع، وتلقَّ الحق إذا سمعته؛ فإن على الحق نورًا!
الله الله… فإن على الحق نورًا.. ما أحكم هذا وأبدعه!
** ومنها عدم الوقوع في العالم إذا زل، وعدم لَوْكِ زلته، والتحدث بها، ثم الإعراض عنه واجتنابه، فإنه -لكونه حكيمًا، وغالبًا- يراجع نفسه، ويوفقه الله للعودة للصواب، ويومئذ يفرح المؤمنون.
ألم يتراجع الإمام أبو الحسن الأشعري عن فكره الكلامي؟
ألم يتحدث أبو حامد عن عقيدة العجائز؟
ألم يتراجع كثيرون كثيرون عن فتاوى بدرت بغير تروٍّ، فثابوا وتراجعوا، ونادوا في الناس أنْ قد أخطأنا؟
** ومنها: تفريغ القلب لتلقي الحق المبين الذي لا يواريه دخن ولا دخل، والإقبال على الحق بمجرد سماعه. والحق واسع المداخل إلى القلوب، سريع الاستقرار فيها، خصوصًا إذا صدر عن قلوب صادقة وقصود مستقيمة.
ووالله لقد جلست دقائق أمام داعية مبارك – رغم دراستي بالأزهر سنين وسنين – دقائق معدودات، حولني الله خلالها إلى حب الطاعات، ونفعني بها نفعًا عظيمًا، وغير حياتي كلها.. فقط في خمس دقائق، لأنه -والله حسيبه- كان عالمًا ربانيًّا، صادقًا، حريصًا، فغير الله تعالى به حياة كثيرين، كنت منهم، وأقلَّهم!
** ومنها الترحيب بالنقد والتصويب، وعدم الاستعلاء والإصرار على الرأي، فهذا (من عمل الشيطان؛ إنه عدو مضل مبين)، وأعتقد أن من يفعل ذلك جاهل ضعيف، أو مغرور مستطيل.
وقد أخرج هذا الاستكبار إبليس عليه لعائن الله من الجنة، وأعاد جبلة بن الأيهم إلى النصرانية، وأبعد كثيرين عن القبول والقلوب!
إن ذلك مرض يا سيدي، وبائي واسع الانتشار، يحول بين الإنسان والإجادة، والقفز بعمله وطموحاته قفزات عالية، ويحول بينه وبين تصحيح أخطائه، وتعديل مساره! وهو مرض برأ اللهُ منه الموفقين وأهل الرشاد:
الصديق أبو بكر رضي الله عنه يرد على قائل له: اتق الله، بالشكر والثناء. ويقول له: لا خير فيكم إن لم تقولوها، ولا خير فينا إن لم نسمعها.
والفاروق الملهم كان يستدعي النقد قائلًا: رحم الله رجلًا أهدى إليّ عيوبي!
وحين قال له أحد البدو الجفاة: لو رأينا فيك اعوجاجًا لقومناه بسيوفنا، رد الفاروق العظيم عليه قائلًا: الحمد لله الذي جعل في أمة محمد صلى الله عليه وسلم من يقوّم ابن الخطاب بسيفه.
وكثير من أئمة الإسلام العظماء كانوا يفرحون إذا خالفهم تلاميذهم الأقربون، وخرجوا بآراء تخالف آراء شيوخهم الذين علموهم -في المسألة الواحدة- كما مر قبل قليل عن المذهب الحنفي، فانظر فيه نظرة عجلى تجد رأي الإمام، وبجانبه رأي تلاميذه أبي يوسف ومحمد بن الحسن وزفر بن الهذيل وحماد ابن أبي حنيفة، كلهم قد خالفوه، وأثبتوا آراءهم بجانب رأيه، دون توهم التطاول والإساءة، عليهم جميعًا رحمات الله ورضوانه.
ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا، ربنا ولا تحمل علينا إصرًا كما حملته على الذين من قبلنا، ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به، واعف عنا، واغقر لنا، وارحمنا، أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين. وصل اللهم، وبارك على سيد الأولين والآخرين، وآله، وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا