د. عطية عدلان يكتب: طاجيكستان والاستبداد السياسي
لا علاقة للإسلام ولا لشريعة الإسلام -بل ولا للجهاد الإسلاميّ- بتلك الجرائم التي تمارسها «داعش» وأضرابها ضدّ مدنيين مسلمين وغير مسلمين، هذه المسَلَّمَةُ أضحتْ بازغةً في سماء الحقيقة لا ينكرها إلا جاحد أو معاند؛ لذلك لا مُسَوِّغ لتلك الانتهاكات التي تمارسها الأنظمة بذريعة مواجهة الإرهاب والتطرف، كتلك التي تورط فيها رئيس جمهورية طاجيكستان (إمام علي رحمون)، حيث قام بالمصادقة على 35 قانونًا، جميعها تعمل على تقييد الحرية الدينية لشعب يدين بالإسلام، تعدادُه يقترب من العشرة ملايين، أكثر من 90% منهم سُنَّة، أغلبهم أحناف على المذهب الرسميّ للبلاد، فما هي الأسباب المعلنة وما هي الدوافع الحقيقية؟ وإلى أين يسير قطار الاستبداد؟
طاجيكستان في سطور
طاجيكستان بلدٌ فقيرٌ منكوبٌ يقع وسط آسيا، يحدُّه من الشرق الصين ومن الجنوب أفغانستان ومن الغرب أوزبكستان ومن الشمال أوزبكستان وقرغيزستان، وتمتد سلاسل الجبال لتلتهم أكثر مساحة هذا البلد البالغة 143.100 كيلومترًا مربعًا، وفوق هذه التضاريس الوعرة تعيش تركيبة سكانية أغلبها من الضاجيك البالغين حوالي 80% ومعهم 15% من الأوزبك، والبقية من أعراق أخرى، وقد دخل الإسلام إلى هذه البلاد على أثر الفتوح الإسلامية التي قام بها قتيبة بن مسلم ومَنْ بعدَهُ لبلاد ما وراء النهر، وظلت بعد الفتح الإسلاميّ خاضعةً للخلافة ثم للدول المستظلة بالخلافة، إلى أن اجتاحها المغول؛ لتدخل في سلسلة من محاولات السيطرة الأجنبية، ولاسيما الروسية، وبعد الثورة البلشفية 1917م لم يكن بالإمكان الاستمرار في مقاومة الروس؛ فدخلت طاجيكستان تحت المظلة السوفيتية راغمة، لتمسي في عام 1922م جمهورية اتحادية سوفيتية كسائر الجمهوريات المسلمة التي دخلت تحت الحكم الشيوعيّ كرهًا، وبعد دهر طويل تَعَرَّضَ فيه الإسلام والمسلمون هناك لأهوال لا تقوم لها الجبال سقطت الشيوعية، وسقط بسقوطها -تحت مطارق البيريستوريكا- الاتحاد السوفيتيّ؛ لتنال طاجيكستان استقلالها عام 1992م، لكنْ أيّ استقلال كان؟! وهل ترك المحتل بلدًا ورحل عنه بسطوته وهيمنته كما رحل بجيشه وعسكره؟ كلا؛ فلقد خرجت طاجيكستان من احتلال مباشر إلى احتلال بالوكالة، لترزح – بعد حروب أهلية طاحنة – تحت حكم طاغيةٍ مستبدٍ، مدعومٍ من روسيا، ولتبقى مقيدةً بآساره طوال الثلاثين عامًا الماضية، تعاني الفقر والقهر، ثم أخيرًا تتعرض لمحاولات الإخراج عن الإسلام!
ما الذي ترمي إليه القوانين
ماذا يعني حظْر ارتداءِ اللباس الإسلامي على المسلمات في الأماكن العامة وفي الجامعات والمدارس؟ وما علاقة ذلك بالإرهاب؟! وما الذي يراد من وراء منع الشباب الذين هم دون الثامنة عشرة من ارتياد المساجد؟ وهل لذلك أدنى علاقة بما أُطلق عليه (حماية الثقافة الوطنيّة)؟! وإذا لم تكن الثقافة الإسلامية هي الثقافة الوطنية لبلد يدين كل سكانه – إلا القليل النادر – بالإسلام الحنيف فماذا تكون؟ وهل التدخّل في نوعية الملابس التي يرتديها الأطفال والشبان وفي الطريقة التي يعبرون بها عن فرحتهم بالأعياد من الوظائف التي تقوم بها دولة تزعم أنّها مدنية؟ ثمّ ما الداعي لوضع قيود على أداء مناسك الحج والعمرة؟ أليست هذه شعائر إسلامية من صميم الإسلام الذي هو الدين الرسميّ للبلاد، وإذا كانت الحرية الدينية منصوصًا عليها في الدستور فكيف يتم إصدار قوانين تقيد حرية المسلمين سكان البلاد في ممارسة شعائر دينهم؟ أسئلة كثيرة لا جواب لها – بحسب أبجديات المنهج العلميّ في تحليل الظواهر – إلا أنّها خطوة بائسة مفلسة على طريق سلخ المسلمين عن دينهم.
التفسير الأوحد للتصرف الأنكد
ولعمري إنّ هذه ليست سياسة ولا كياسة، إنّها ليست سوى الاستسلام التام لما يمليه أعداء الإسلام، وإنّ الطفل الغرير قبل العالم الخبير لا يجد لذلك السفه إلا هذا التفسير، إنّ كراسيّ المستبدين تمدّ قوائمها في تربة التبعية راغمة؛ لتستمد منها شرعية وجودها، ولولا ذلك ما استقرت ولا استمرت، أمّا حماية الأوطان من الإرهاب وحماية ثقافة الأوطان من التطرف الديني فتلك ذرائع صارت بائرة في سوق العلل والأسباب، وما عادت تروج على الناس ولا تنطلي على الخلق، وإنّ هذه التصرفات القمعية هي التي يتولد منها الشرور وينبثق عنها العنف؛ فهلّا وَعَى الطغاةُ التجاربَ التي مرّ بها أسلافهم؟
إمّا التحرر أو الطوفان المزمجر
لا سبيل إلى النيل من الإسلام، لا سبيل إلى ذلك الغرض ولو اجتمع عليه الآنام، سلوا التاريخ وما حمله فوق ظهره من أحداث جسام: هل انتهى الإسلام وقضي عليه بمثل هذه الحروب؟ لو كان ذلك ممكنًا اليومَ لوقع قبل ذلك بأزمان، لو كان الإسلام يُقضى عليه وينتهي لكان ذلك يوم أن اجتاحت جحافل المغول تلك البلاد وما وراءها من البلاد حتى أغرقت بغداد، لقد ذهبت ريح المغول، كما ذهبت ريح الصليبيين، وبقي الإسلام، وستذهب ريح الصهاينة وأمثال الصهاينة في الغرب والشرق وسيبقى الإسلام؛ وإذن فلا خيار أمام هؤلاء الطغاة إلا أن يتركوا الشعوب تمارس حريتها، أو ينتظروا الطوفان الذي سيقتلعهم من جذورهم، ويومها لن تبكي عليهم سماء ولا أرض.
حقّ المخلوق في أن يعبد خالقه
إذا كان حق الإنسان في الحياة وفي العيش الكريم مقدَّسًا؛ فإنّ حقه – قبل ذلك – في أن يعبد خالقه ويتوجه إليه بالطاعة أعظم قدسيّة من كل الحقوق على قداستها في دين الله، فإنّ الله تعالى ما خلق الإنسان إلا لعبادته؛ ومن ثمّ فإنّ كل محاولة للحيلولة دون تحقيق الإنسان لهذه الغاية تُعَدُّ عدوانًا سافرًا على أقدس حقّ من حقوق هذا الإنسان، ومثل هذا العدوان شَرَعَ له الإسلامُ ما يَرُدُّه ويدفع غائلته، وليس المسلم بالذي يرضى بالحياة بعد أن تنزع روحها بنزع الدين من جوفها، إنّ على الشعوب المسلمة أن تحمي دينها كحماية المرء منّا لولده أو أشدّ، لذلك أرى أنّ ما ورد في هذه الآية أمرًا وليس خبرًا: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعى فِي خَرابِها أُولئِكَ مَا كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلَاّ خائِفِينَ)؛ فما ينبغي للمصلين أن يَدَعُوا من يعتدون على المساجد أن يعتدوا وهم آمنون.
المصدر: الجزيرة