د. علي الصلابي يكتب: الصناعة من سبل التمكين في الأرض
لقد سخر الله تعالى لعباده جميع ما خلق في هذا الكون مما تنبت الأرض وتخرج البحار، ومن الموارد الطبيعية والثروات الباطنية والمواد الأولية وغيرها، وذلك ليتخذ منها الإنسان وسيلة لخدمة حياته وإدامة وجوده في هذه الدنيا، ولذلك فالمؤمنون هم أولى الناس باستغلال ما خلق الله تعالى وأنعم على عباده في سبيل إعمار الأرض بما يرضيه وإعلاء كلمته، ومن هنا كانت الصناعة التي تستخدم وتستثمر الموارد الطبيعية والمواد الأولية من أهم سبل التمكين في الأرض وبناء القوة المادية التي تعين المؤمنين على تحقيق أهدافهم وتكمل قوتهم الإيمانية والمعنوية. ولعل أهم تلك الصناعات التي أشار إليها القرآن الكريم هي صناعة الحديد والسلاح، وذلك في قوله تعالى: (وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُم مِّن بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ) [الأنبياء:80].
كان داود عليه السلام أول من اتخذ الدروع وصنعها، وتعلمها الناس منه، وإنما كانت صفائح، فهو أول من سردها وحلقها، فأصبحت النعمة عليه نعمة على جميع المحاربين على الدوام أبد الدهر، فلزمهم شكر الله تعالى على النعمة.
وذلك يقتضي الشكر، لذا قال تعالى: (فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ) أي على تيسير نعمة الدروع لكم، وأن تطيعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أمر به، والمراد: اشكروا الله على ما يسر عليكم من هذه النعمة.
وهذه الآية دليل على جواز اتخاذ الصنائع والأسباب، فالسبب سنة الله في خلقه، وهي شهادة للعمال وأهل الحرف والصنائع بأن العمل شرف، واتخاذ الحرفة كرامة، وهذه الآية فيها إشارة لحث أهل الإيمان على العمل والإبداع والأخذ بأسباب النصر على الأعداء، ومحاربة الفساد بإعداد الجيوش مقودة بقيم الإيمان وتعاليم الرحمن وشريعة الديان.
قوله تعالى: (وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) [سبأ: 11،10]، وكانت هذه هبة الله فوق الملك والسلطان، مع النبوة والاستخلاص، إن الله تعالى أنعم على عبده داود بتسييل الحديد له أو تعليمه كيف يسيل الحديد الذي هو مادة الإعمار والبناء والتصنيع، ولا شك في خطورة مادة الحديد في صناعة الحضارات وبناء الدول وفي حسم انتصارات الجيوش.
يقول الدكتور عماد الدين خليل: وفي سورة الحديد نقرأ هذه الآية: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ مَن يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) [الحديد:25].
هل ثمة أكثر دلالة على ارتباط المسلم بالأرض من تسمية سورة كاملة باسم خام من أهم وأخطر خاماتها؟ هل ثمة أكثر إقناعًا لنزعة التحضير والإبداع والبناء، التي جاء الإسلام لكي يجعلها جزءًا أساسيًا من أخلاقيات الإيمان وسلوكياته في قلب العالم، من هذه الآية التي تعرض خام الحديد كنعمة كبيرة أنزلها الله لعباده، وتعرض معها المسألة في طرفيها اللذين يتمخضان دومًا عن الحديد (البأس الشديد) متمثلاً باستخدام الحديد كأساس للتسلح والإعداد العسكري، و(المنافع) التي يمكن أن يحظى بها الإنسان من هذه المادة الخام في كل مجالات نشاطه وبنائه (السلمي)؟
وهل ثمة حاجة للتأكيد على الأهمية المتزايدة للحديد بمرور الزمن، في مسائل السلم والحرب، وأنه غدا في عصرنا الراهن هذا وسيلة من أهم الوسائل في ميادين القوى الدولية سلمًا وحربًا؟
إن الدولة المعاصرة التي تملك خام الحديد تستطيع أن ترهب أعداءها بما يتيحه لها هذا الخام من مقدرة على التسلح الثقيل.. وتستطيع أيضًا أن تخطو خطوات واسعة لكي تقف في مصاف الدول الصناعية العظمى التي يشكل الحديد العمود الفقري لصناعاتها وغناها.
إن الله سبحانه وتعالى منح الحديد لداود عليه السلام، وعلمه كيف يلينه، لأن الفائدة تتحقق بوجود الخام والقدرة على تشكيله، ولا شك أن ذلك ساعد على بناء حضارة عظيمة جمعت بين المنهج الرباني والتطور العمراني والصناعي.. إلخ.
وإذا تأملنا في آية الحديد نجد تداخلاً عميقًا وارتباطًا وثيقًا بين آية الحديد، وإرسال الرسل وإنزال الكتب معهم، وإقامة الموازين الدقيقة لنشر العدل بين الناس، وبين إنزال الحديد الذي يحمل في طياته (البأس)، ثم التأكيد على أن هذا كله إنما يجئ لكي يعلم الله (مَن يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ) و (إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ).
إن المسلم الرباني لن تحميه بعد قدرة الله إلا يده المؤمنة التي تعرف كيف تبحث عن الحديد وتشكله وتستخدمه من أجل حماية العقيدة والتقدم بهذا الدين، وتحقيق النصر للمؤمنين، وإقامة دولة تحكمها شريعة رب العالمين، إن قول الله تعالى: (وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ) فيه إشارة إلى أهمية هذا الخام وتوظيفه لخدمة الإسلام.