ما كنت أظن أنه سيأتي علينا يوم نكتب أو نخط حرفاً في شأن وجوب إقامة الدولة الإسلامية، لكن ها قد جاء اليوم، واضطررنا أن نكتب المقال تلو المقال في هذا الشأن، لدفع الشبه والأوهام، والرد على التحريفات التي تطال بعض الأحكام والأقوال، وتجلية الحقائق بصورة ناصعة.
لقد بعث الله رسوله محمداً كما بعث أنبياء آخرين قبله، وقد قام بناء الإسلام على ثلاثة أعمدة هي: الفرد، الأمة، الدولة، وقد كان هناك تكامل وتفاعل بين هذه الأعمدة الثلاثة، واستمرت هذه الأعمدة الثلاثة موجودة حوالي ثلاثة عشر قرناً، وكان الذي يتغير هو الدول، فسقطت عشرات الدول وقامت غيرها، من مثل: السلجوقيين، البويهيين، المرابطين، الموحدين، الطاهريين، الزنكيين، الأيوبيين إلخ… لكننا مررنا بمرحلة جديدة في مطلع القرن العشرين عندما سقطت آخر دولة وهي دولة “الخلافة العثمانية”، وبقي العمودان الآخران وهما: الفرد المسلم، والأمة المسلمة.
ومن الواضح أن سقوط الخلافة العثمانية كان له أثر مزلزل في الكيان الإسلامي، وكانت له نتائج كارثية أبرزها: تقسيم الأرض الإسلامية إلى دول لم تكن موجودة في أية مرحلة تاريخية، وهذا أدى إلى تشرذم الأمّة وإضعافها في وجه الأعداء الغربيين.
ومن النتائج الكارثية الأخرى، قيام إسرائيل عام 1948م، وتوسعها المستمر على حساب الدول العربية المحيطة في حروب عام 1956م، وعام 1967م، وعام 1982م.
ومن الممكن أن نُدخل في النتائج الكارثية لسقوط الخلافة العثمانية واقع النهب الاقتصادي لبلادنا العربية في مجال البترول وغيره، وإفقار الدول العربية من خلال ربطها بالسوق الدولية، وإلزامها بوصايا البنك الدولي وتحرير الأسعار، ورفع الدعم عن المواد الأساسية التي تقوم بها بعض الدول.
فماذا تصرفت الأمة بعد سقوط الخلافة؟
من الواضح أن الأمة اعتبرت أن إعادة الخلافة واجب شرعي، لذلك قامت الحركات التي استهدفت إعادة الدولة الإسلامية في كل الدول العربية والإسلامية تقريباً لتحقيق هذا الهدف.
وقد قام عشرات العلماء والكتّاب والمفكرّين بتحليل أسباب سقوط الخلافة، والدعوة إلى إعادة الدولة الإسلامية، ومن هؤلاء: محمد رشيد رضا الذي ألّف «الإمامة العظمى»، وعبد الحميد بن باديس، وعلاّل الفاسي، وحسن البنا، وتقي الدين النبهاني، وأبو الأعلى المودودي، والحاج أمين الحسيني، إلخ…
لكن الحركات التي سعت إلى إعادة الدولة الإسلامية لم تنجح في مسعاها، وتعثرت حركتها، فما الموقف الشرعي ـ الآن ـ من تطبيق الشريعة وإعادة الدولة وتنصيب الإمام؟ إنّ الموقف الشرعي الذي يُوجِبُه الإسلام على الأمّة هو وجوب السعي إلى إقامة الدولة وتنصيب الإمام وتطبيق الشريعة، وقد أكّد هذا الحكم والموقف الشرعي الفتوى التي أصدرتها الموسوعة الفقهية، والتي جاء فيها: أجمعت الأمة على وجوب عقد الإمامة، وعلى أن الأمة يجب عليها الانقياد لإمام عادل، يقيم فيها أحكام الله، ويسوسهم بأحكام الشريعة التي أتى بها رسول الله.. ولم يخرج عن هذا الإجماع من يعتد بخلافه.
واستدلوا على ذلك، بإجماع الصحابة والتابعين، وقد ثبت أن الصحابة رضي الله عنهم، بمجرد أن بلغهم نبأ وفاة رسول الله بادروا إلى عقد اجتماع في سقيفة بني ساعدة، واشترك في الاجتماع كبار الصحابة، وتركوا أهم الأمور لديهم في تجهيز رسول الله وتشييع جثمانه الشريف، وتداولوا في أمر خلافته.
وهم، وإن اختلفوا في بادئ الأمر حول الشخص الذي ينبغي أن يُبايع، أو على الصفات التي ينبغي أن تتوفر في من يختارونه، فإنهم لم يختلفوا في وجوب نصب إمام للمسلمين، ولم يقل أحد مطلقاً إنه لا حاجة إلى ذلك، وبايعوا أبا بكر رضي الله عنه، ووافق بقية الصحابة الذين لم يكونوا حاضرين في السقيفة، وبقيت هذه السنّة في كل العصور، فكان ذلك إجماعاً على وجوب نصب الإمام.
(الموسوعة الفقهية، إصدار وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، الكويت، ج6، ص217).
من الواضح أن الموسوعة الفقهية التي نقلنا حكمها، أوجبت على الأمة تنصيب الإمام الذي يعني إقامة الدولة في لغة عصرنا، كما أوجبت عليها تطبيق الشريعة، فما واجب الفرد المسلم الآن إزاء غياب الدولة الإسلامية، وعدم وجود إمام يقود المسلمين، ويرعى تطبيق الشريعة الإسلامية؟
فرض كفاية أم فرض عين؟
لقد اعتبر الماوردي في كتابه «الأحكام السلطانية» أنّ تنصيب الإمام وإقامة الدولة الإسلامية “فرض كفاية” على المسلم، لكنّ عدداً من العلماء والكتّاب والمفكّرين المعاصرين اعتبروا أنّ إقامة الدولة الإسلامية وتنصيب الإمام -الآن- «فرض عين»، ومنهم: أبو الأعلى المودودي، تقي الدين النبهاني، حسن البنّا، سيد قطب، عبد القادر عودة، إلخ…، وأصّلوا لحكمهم بأنه “فرض عين” من القرآن الكريم والسنة المشرفة والإجماع والعقل.
وإذا أردنا أن نوازن بين اعتبار الماوردي أنّ تنصيب الإمام «فرض كفاية»، وقول بعض العلماء والمفكرين المعاصرين بأنه «فرض عين»، نجد أن الأرجح في هذا الوقت بأن حكم تنصيب الإمام الذي يرعى إقامة الدولة الإسلامية «فرض عين» على كل مسلم، وذلك لسببين:
الأول: من الأرجح أنّ «فرض الكفاية» الذي قال به العلماء السابقون بخصوص حكم سعي المسلم إلى تنصيب الإمام وتطبيق الشريعة في السابق، قد تحوّل إلى “فرض عين” في الوقت الحالي، وذلك بسبب اختلاف الأوضاع الحاضرة عن الماضية.
في الماضي سقط الحكم الإسلامي في الأندلس عام 1491م، وطُرد الحكام المسلمون منها، وانتهى تطبيق الشرع الإسلامي فيها، ولكنّ الأئمة كانوا موجودين في بلدان أخرى مجاورة، كالمغرب والجزائر وتونس ومصر إلخ…، وكان الشرع الإسلامي مُطبّقاً في مناطق أخرى واسعة من شمالي أفريقيا وآسيا وأوروبا. لذلك كان الحكم في السابق «فرض كفاية» على المسلم، لأنّ الشرع ما زال مُطبّقاً في أماكن أخرى، وما زال هناك أئمة يُتابعون شؤون الأمّة ويذودون عنها في أماكن ثانية.
أما في الحاضر فقد سقط آخر إمام وهو الخليفة العثماني، وانحسر تطبيق الشرع الإسلامي من جميع الأرض، فلم يَعُدْ هناك إمام يرعى شؤون المسلمين، ولم تَعُدْ هناك أرض تطبق شرع الله، لذلك فإنني أعتقد أنّ الأوضاع الجديدة هي التي جعلت هذا الفرض ترتفع مرتبته، ويتحول من «فرض كفاية» إلى «فرض عين»، وهذه الأوضاع هي التي جعلت العلماء المعاصرين يُفتون بمثل هذه الفتوى.
الثاني: إنّ المخاطر التي تهدد -الآن- العمودين الآخرين من الكيان الإسلامي وهما: الفرد المسلم والأمة المسلمة مخاطر وجودية، ويمكن أن نتأكد من ذلك إذا نظرنا إلى واقع الأمة خلال نصف القرن الماضي نظرة فاحصة شاملة معمّقة، فماذا نجد؟
نجد أنه اجتمعت على الأمة ثلاث قوى تمتلك ثلاثة مشاريع يكمل بعضها بعضاً، وهي:
1 ـ المشروع الغربي الذي بدأ منذ غزو نابليون إلى مصر عام 1798م، وانتقلت قيادته -الآن- إلى أمريكا بعد الحرب العالمية الثانية.
2 ـ المشروع الصهيوني والذي بدأ في بازل عام 1897م، وأقام إسرائيل عام 1948م.
3 ـ مشروع ملالي إيران والذي بدأ عام 1979م، والذي توصل إلى تحقيق نفوذه على أربع عواصم دول عربية هي: العراق، سورية، لبنان، اليمن.
ولا أريد أن أُفصّل في نتائج هذه المشاريع الثلاثة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، ولكن علينا فقط أن ننظر إلى خريطة المنطقة بدءاً من احتلال أفغانستان عام 2001م، ثم العراق عام 2003م، ثم الاضطرابات التي تعيشها العراق، وسوريا، ولبنان، واليمن، وليبيا، ومصر، والسودان، والجزائر إلخ… لندرك مدى خطورة الوضع الذي تعيشه أمتنا، وانعكاسه على كل شيء في حياة الفرد من النواحي النفسية والاقتصادية والثقافية والخُلُقِيّة والاجتماعية والتربوية إلخ…، وانعكاسه -كذلك- على جميع تفصيلات حياة البلدان العربية من النواحي المختلفة: السياسية والاقتصادية والاجتماعية إلخ…
من الأرجح أنه قد تعيّن فرض تنصيب الإمام المسلم وإقامة الشرع الإسلامي، وتحول من «فرض كفاية» إلى «فرض عين» نتيجة المخاطر التي تتهدد حياة الفرد والأمة، وعلى المسلمين أن يعملوا بهذا الحكم الشرعي، لأن تنصيب الإمام وإقامة الدولة الإسلامية هو الذي يُوقف هذا المسلسل الذي تعيشه الأمة من الدمار والتخريب والتمزيق والتفتيت والإذلال إلخ… على مستوى الفرد والجماعة، وينقل الأمة من موقف رد الفعل إلى الفعل والبناء الحضاري.
والآن: ما واجب العلماء والدعاة والمشايخ والأحزاب والجماعات والمفكرين إزاء تنصيب الإمام وإقامة الدولة وإعادة تطبيق الشرع الإسلامي؟
من المؤكد أن الواجب عليهم أن يُطبّقوا ذلك «الفرض» على أنفسهم، فهم أولى بذلك، وعليهم كذلك أن يوضحوا لعموم أفراد الأمة فوائد الالتزام بذلك «الفرض» والمضار التي يمكن أن تلحق بالأمة في حال عدم التزامهم به، ويرتقوا بوعيهم ليكونوا جزءاً من مسيرة الأمة الإيجابية القادمة.
أما العلماء والمشايخ الذين لا يقومون بهذا «الفرض»، أو يُقلّلون من قيمته، ويُهوّنون من شأنه، فإنهم قد عزلوا أنفسهم، ووقفوا في خندق معاد للأمة، لذلك فعلى الأمة أن ترفع صوتها في تقريعهم ونبذهم، لأنهم يساهمون بهذا الفعل في إضعاف وخلخلة بنائها، واحتمالات تفككها، وإنهاء وجودها.
الخلاصة:
لقد قام الكيان الإسلامي على ثلاثة أعمدة خلال التاريخ الماضي، لقد سقط عمود وهو: الدولة المسلمة بسقوط الخلافة العثمانية عام 1924م، وبقي العمودان الآخران، وهما: الفرد المسلم، والأمة المسلمة، وتصدى العلماء والأمة بعد الحرب العالمية الأولى لهذه الكارثة، واعتبر بعض العلماء المعاصرين أنّ السعي إلى إقامة الدولة وإعادة تطبيق الشريعة «فرض عين»، بعد أن كان «فرض كفاية» حسب رأي الماوردي.