د. فضل مراد يكتب: على مفترق الطرق.. بين الكلاب أو مع الله وملائكته
رسالة عاجلة لعلماء الشريعة

يقول سبحانه وتعالى: (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ)
استوقفني هذا النص الصريح وأنا أكتب في محددات التنزيل للفتاوى على الحياة المعاصرة
والتي تتبعتها فبلغت إحدى عشر محددا يجب على الفقيه الناظر في النوازل أن يلم بها وأن يطبقها ويفعلها تفعيلا صحيحا في تنزيله للفتوى.
بعد أن كان قد مر بمرحلة الأسئلة التأصيلية التنزيلية التي تشكل خارطة النظر الفقهي وتؤمن سلامته وأصوبيته، التي أودعتها وأفضت فيها في كتاب (خارطة النظر الفقهي) المعد للتجهير للطبع في 3 مجلدات مع بيان نوازل العصر لكل سؤال ومحدد ومرحلة وأين الخلل وماذا يصنع.
إن محددات التنزيل الإحدى عشر يأتي على رأسها أن يقصد العالم في النازلة التعبد الخالص لله ببيان ما يرضي الله.
لأن غير ذلك إضافة لخطورته عليه يمثل انتهاكا لحق البشرية في بيان ما أنزل الله كما أنزل وخيانة جسيمة لأمانة عظمي يتحمل العالم مسؤولية مآلات ذلك في تضليل العالم وتيهه وإقعاد الأمة بهذا الكذب على الله عن دورها في حمل مشروع الإسلام النهضوي للعالم وإنقاذه من غياهب الظلمات.
وسآتكم عن هذا بتفصيل في مقال آت.
لكن دعوني الآن أقف مع هذا النص القرآني وفقهه بما فتح الله به من بيان فأقول فيه:
1- أن من قصد بالنظر والفتوى وتنزيلها التعبد الخالص لله ببيان ما يرضي الله في هذه النازلة رفع الله درجته كما رفع لواء شرعه.
وهذا هو المعنى المقصود في قوله تعالى: (يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات)
فليس رفع الدرجات لذات العلم وإلا لرفع العالم الفاسق والمحرف لدين الله لما لديه من العلم.
بل ذلك مختص بالعالم الرباني الرافع لواء الشريعة، فعامله الله بجنس عمله فرفع درجاته.
2- وفيه: من الفقه عظيم قدر العالم العدل الصالح المصلح حيث يتولى الله بنفسه رفعته.
3- وفيه: عظيم مقدار هذه الرفعة لأن الذي رفع هو الله الكريم القادر على كل شيء الذي بيده ملك كل شيء وعنت له رقاب كل شيء فماذا تتصور إذا
فلا شك أن هذه الرفعة لدرجات العالم الرباني بما يليق به سبحانه وبأسمائه الكريمة وأفعاله الجميلة.
وقد كشف لنا لمحة من هذه المنزلة السامقة حيث جعل العلماء الربانيين معه ومع ملائكته
حيث قال سبحانه: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا اله إِلَاّ هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لَا اله إِلَاّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}
فما أعظمها من منزلة أن يؤهلك الله أن تشهد معه ومع ملائكته على توحيده ويجعلها حجة على الخلق.
ما أعلاها من مكانة.
إن الفقهاء تكلموا في باب الشهادة عن أنواع العدالة وشروطها ومحدداتها لقبول شهادة في متاع دنيوي، فهذا الله العلي الذي استوى على عرشه يذكر شهادة العالم الرباني ويجعلها مع شهادته وشهادته ملائكته في أخطر قضية وجودية وأعلى مقصود لخلق الكون وهو عبادة الله وتوحيده وإن دينه الإسلام..
فما أرفع الشاهد والمشهود
وموضوع الشاهدة. لا منزلة ولا مكانة بعد هذه المنزلة.
وإذا كانت هذه مكانة العلماء الربانيين فكيف بالرسل والأنبياء.
4- وفيه: أن على العالم الرباني أن يعلق قلبه بالله ورفعته التي ليس لها حد محدود، لا ببشر محدود ضعيف مهما حاول إعلاء شأنك فهو محدود مؤقت زائل لا قيمة له بل إن كان بسخط الله فهو الذي تركك لانحرافك وشهواتك أن تكون لعبة محدودة بيد محدودين سفهاء ضعفاء من أهل المال والجاه والسلطان الزائل.
5- وفيه: أن منصب العالم العامل ومكانته الرفيعة وما وضع له من قبول في الأرض لا يمكن لبشر مهما كانت سلطاته وسطواته أن يجرده منها ويحط مكانته لأن الذي رفعه هو الله فمن الذي يقدر على حط من رفعه الله.
6- وفيه: أن العالم الورع مرتبط بالله فليمطئن فهو من يتولاه ويرفعه فلا يلتفت لغيره.
7- وفيه: إزالة مخاوف قد تعترض العالم في حياته حين يعلن للناس الحق الذي يريده الله ويبلغه.
فتدهمه مخاوف وقلق من رد فعل الناس والجمهور أو السلطات أو الحزب أو المذهب فيبين الله له أن كل هذا لا شيء كله هباء.
كل هذه المخاوف صناعة خناسية أزلها من رأسك فأنا من أرفعك فكن معي ولا تلتفت لمن هم بيدي.
8- وفيه: أن الذي يرفع ويضع هو الله لا البشر فما هم سوى أدوات في قدر الله ينفذون ما قدر.
9- وفيه: أنه إن تولاك سبحانه ورفعك فهو أمر قهري يجري حتى على من يكن لك العداء وينابذك فلا يقدر على صرف ما أنعم الله عليك من القبول والمكانة والرفعة ولو كاد ما كاد.
وكم من علماء مصلحين في التاريخ قالوا الحق وتعبدوا الله ببيان شرعه في نوازل الحياة
فذكرهم باق إلى قيام الساعة وقد انطمر من كادهم وبغى عليهم في دركات الهوان ولعنه التاريخ إلى يوم الدين.
10- وفيه: أن العالم الفاسق محطوط وضيع ملعون لهذا يقول تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَاّعِنُونَ} [البقرة: 159]
وهذا العالم المجرم اللاهث في كل لحظة وفرصة ومناسبة وراء المطامع وزخارف الأهواء والشهوات وصل لحالة كلبية مزرية ولازمته مشكلة معضلة حقيقية لا علاج لها فلا يشبعه شيء ولا يقنعه عطاء ولا يتوقف عن ذلك مدى الحياة.
كالكلب اللاهث في كل حالاته لا يترك ولا يبارح حالته التي هي جزء من تركيبته
وهذا ما كشفه ربنا سبحانه من هوان هؤلاء الوضعاء في صورة بلاغية تزري بهم ومواقفهم وحياتهم.
حيث قال سبحانه: {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ} [الأعراف: 176]
وفي هذا النص كشف للمآلات الخطيرة التي تهوي به في دركات الغواية وسخط الله المتعلقة به شخصيا وبمستقبله في الحياتين.
11- وفيه: التصاق ذلك الخزي به في عموم حياته ومواقفه وفتاواه وبياناته فهو لاهث لاهث، بسبب وبدون سبب، بفائدة وبدون فائدة، في حركاته حين تحمل عليه، وفي سكونه وهدوئه حين تتركه.
كالكلب بدون سبب وبسبب صار اللهاث سجية وطبيعة له وجزأ لا يتجزأ من حياته.
12- وفيه: أن فعله هذا من الكبائر الموبقة لأن دلالة التشبيه والتشنيع تفيد التحريم ودلالة اللعن وتفخيم الجريمة ومآلاتها وتنويع أساليب ذمه وتجريمه دليل على أنها من الكبائر الجسيمة (كما بينته في محددات معرفة الحكم في سؤال الحكم من كتابنا المذكور).
وفيه مسائل وفوائد أخرى ليس هذا محلها، ولهذا لعن الله الأحبار والرهبان لما حرفوا وبدلوا.
والنصوص في هذا كثيرة صريحة في ذلك.
فالحذر الحذر من زيغ القلب وانحراف النية وتبيت غير مرضات الله في بيان شرعه وبلاغها للناس وتنزيل ما أنزل من الهدى في فتاوى ونوازل العباد.
والخيار بين يديك وأنت على مفترق طرق خطير.
فإما أن تكون مع الله وملائكته أو بين الكلاب ولهاثها.