رأيته يتشكى من نقصان بعض النعم عليه في زمانه المتأخر، وأن ما يجده منها لم يعد يكفيه هو وأهل بيته، فقلت له: يا أخي، أنت على دين الإسلام، ومن أهل الدعوة والقرآن، وقد امتنَّ الله عليك بالهداية للدين الحق، وبالأمن والعافية، وبزوجة وذرية، وبمصدر دخل حلال، وبصحبة وفية ناصحة، وفتح لك من أبواب العمل للدين وخدمة المستضعفين ما لم يفتحه لغيرك، فلماذا ذكرت امتحان الله لك بنقصان القليل، ونسيت أنه أعطاك اختبارًا – وفي جوانب لا تحصى – الكثير الكثير؟!
ولماذا شاهدت الشدة وحدها؟! ثم كبَّرتها وضخَّمتها، ولم تشاهد ما اشتملت عليه في ثناياها من خير عميم لك، كالإعانة على عبادات الضراء، من صبر ورضى بالبلوى، وكثرة سؤال الله، وإظهار الافتقار بين يديه، وطلب معونته، والتوكل عليه وعدم الركون إلى أحد سواه، ومن تذكر النعم السالفة والحاضرة وحفظها ومعرفة قدرها وعظم فضل الله بها وشكره عليها، ومن حسن الظن بالله ورجاء رفع البلوى، ومن تهذيب للنفس على الاقتصاد والقناعة والتواضع والرضا بالقليل، والوقوف مع الضعيف، ومساعدة المسكين، ومن توطين لها على تقلبات الأيام وتبدل الأحوال، وإحسان الظن بالله في كل حال، وتلمس ضروب حكمته وجوانب فضله في كل أفعاله، وأنه ما أخذ إلا ليعطي، وما أقلَّ إلا ليرضي؛ وحتى يميز الصادق الصابر من الكاذب الجازع؛ إذ فعله تعالى كله بركة ونفع وخير ورحمة، والشر ليس إليه.
ويا أخي، أينك من قوله ﷺ: (إذا نظر أحدكم إلى من فضل عليه في المال والجسم، فلينظر إلى من دونه في المال والجسم)، وفي رواية: (انظروا إلى من أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم، فهو أجدر ألا تزدروا نعمة الله)، أي: أجدر ألا تحتقروها وتتقالوها. قال الطبري: (هذا حديث جامع للخير؛ لأن العبد إذا رأى من فوقه في الخير طالت نفسه باللحاق به، واستقصر حاله التي هو عليها، واجتهد في الزيادة. وإذا نظر في دنياه إلى من هو دونه تبين نعم الله عليه، فألزم نفسه الشكر). وقال القاضي عياض – مضيفًا عليه -: (وإذا لم يفعل ما حض عليه النبي ﷺ، كان الأمر بالعكس، فأعجب بعمله، وكسل عن الزيادة من الخير، ومد عينيه إلى الدنيا، وحرص على الازدياد منها، وازدرى نعم الله عليه ولم يؤدِّ حقها).
وأينك يا أخي من إدراك حقيقة هذه الدنيا، وأنها كلها ممقوتة إلا ذكر الله وما والاه، وأنها هينة حقيرة على الله لا تعدل جناح بعوضة، وأنها زائلة راحلة، وأن الله تعالى قال:
(كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ).
وأينك يا أخي مما أورده ابن كثير في بدايته من قصة وعظ ابن السماك للرشيد، فقال: (ودخل عليه ابن السماك يومًا فاستسقى الرشيد، فأُتي بقلة فيها ماء مبرد، فقال لابن السماك: عظني. فقال: يا أمير المؤمنين! بكم كنت مشتريًا هذه الشربة لو منعتها؟ فقال: بنصف ملكي. فقال: اشرب هنيئًا. فلما شرب قال: أرأيت لو منعت خروجها من بدنك، بكم كنت تشتري ذلك؟ قال: بنصف ملكي الآخر. فقال: إن ملكًا قيمة نصفه شربة ماء، وقيمة نصفه الآخر بولة، لخليق ألا يتنافس فيه. فبكى هارون).
فاحمد الله يا أخي على جليل نعمه، وإياك أن تغفل عن ذكرها وشكرها، وإياك أن تزدري شيئًا منها، فإن ذلك ليس من مسالك الشاكرين الصابرين، وليس من صنيع أهل الفقه في الدين الذين يدركون أن هذه الدنيا بكل ما فيها من سراء وضراء وسعة وضيق هي ابتلاء لا جزاء. وفي ذلك يقول تعالى:
(وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ)،
ويقول سبحانه:
(أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ ۖ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ ۗ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ)،
ويقول عز وجل:
(فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ كَلَّا).
والله الهادي.