د. محمد أكرم الندوي يكتب: بين العقل والقلب

سبق أن أصدرت عدة مقالات في بيان معرفة الفطرة ومصادر العلم ووظائف العقل، وهي كلها مترابطة متناسقة، ويتوقف استيعاب هذا المقال الجديد على مراجعتها، فلا يتسرع أحد إلى الحكم علي بشيء حتى يطالعها.
القلب بمثابة الملك في الإنسان، والحواس، والعقل، بل جسم الإنسان كله ونفسه في طاعته، والقلب يتطلب ما يستحسنه، ويتقزز ما يستقبحه، فإذا حاز ما يستحسنه نعم به وسعد، وإذا حرمه تعب وشقي، وإذا هاجمه ما يستقبحه تعب وشقي، وإذا نجا منه نعم وسعد، ويحكم القلب في مسألة الحسن والقبح بناءً على الفطرة التي أودعت فيه ومستعينًا بالعقل، والعقل وزيره ومستشاره.
والعقل يرجع في الأمور الحسية إلى الحواس الخمس كما هو معلوم، ويعتمد الوحي في الأمور التي هي وراء عالم المحسوسات، وقد حدثت عن كل ذلك في موضع آخر، فالعقل يقرر وجود الشيء وعدمه بناء على هذه المصادر واستنباطه منها، أي إن العقل يحكم في مسألة الوجود بالإيجاب والسلب إما استقراء أو استنتاجا، والعقل في حكمه، سواء كان في الأمور المادية أو الخلقية، يتقيد بفهم الترابط والتلازم، أي العلاقة بين السبب والمسبب، والأثر والمؤثر، والعلة والمعلول، ويقع العقل في الخطأ حينما يحكم على الأمور بناءً على الظن والتخمين، من دون أن يتأكد من صحة الأدلة التي بين يديه، وقد شرحت غلط العقل في مقال سابق فلا أعيده.
وما أكثر ما يُخطئ القلب ويغلط، ويجاوز حده ويقصر، وذلك لسببين:
أولهما إعراضه عن الفطرة، حيث يغلبه الهوى، فيستحسن ما يهواه ويستقبح ما لا يهواه.
والثاني إعراضه عن العقل، فيسخر العقل للحصول على حسن عاجل ومتاع زائل ولذة مادية وشهوة ظاهرة، بدلا من أن يسخره للظفر بالحسن الحقيقي.
ومن أجل تصحيح هذا الخطأ، وجب أن يشدد على القلب الاستجابة للفطرة، والاستماع لمشورة العقل.
فما الحسن الفطري الذي ينبغي أن يوجه إليه القلب فتحصل له السعادة الحقيقية؟ هذا الحسن هو ما ينفعه ويدوم نفعه، وضده القبح الذي يدوم قبحه، فإن القلب إذا مال إلى حسن زائل، فإنه يسعد به لوقت قليل، ثم يظل في عذاب إذا فاته، وهذا هو السر في قول إمام المحققين إبراهيم عليه السلام: “لا أحب الآفلين” لأن حب الآفلين عذاب وشقاء.
وما أفضل وجه للقلب ليستمع إلى العقل؟
هو أن يسخره لنيل المطلب الفطري، فيفرق بين اللذات والمنافع التي تنتج من اتباع الأهواء وقضاء الشهوات، واللذات والمنافع التي ترضي الفطرة وتسعدها، وكذلك يفرق بين المضار والآلام الدائمة، والمضار والآلام العارضة التي تؤدي إلى لذات ومنافع باقية.
ولن يتأتى ذلك إلا إذا صفا القلب وطهر من الأدناس والأرجاس، ومن ثم كانت دعوة الأنبياء إلى تزكية القلب “قد أفلح من تزكى”، وعلامة القلب المتزكي الإنابة إلى ربه وعبادته، “وذكر اسم ربه فصلى”، وفي ذلك السعادة الخالدة الباقية.