قالوا: حدثنا عن كلمة إبراهيم الخليل عليه السلام: «لا أحب الآفلين»، قلت: ألم تقرأوا مقالاتي باللغات العربية والإنكليزية والأردية؟ فقد حدثت عنها وأفضت في الحديث عنها، قالوا: إن مقالاتك هي التي شوقتنا إلى الاستزادة من معرفتها، قلت: فاسمعوا وعوا:
قد قلت مرارا، وأقول مرة أخرى، إنها كلمة تستوقفني كلما وقعت في سمعي أو آنسها بصري، كلما قرأتها أو استشعرتها امتلأ قلبي معاني عميقة وبدا لي الخلق كله مرغوبا عنه، ومنزوع الحب منه، وممنوع الانجذاب إليه، إنها كلمة لم ينطق بمثلها أحد من البشر غير ابن آزر، كلمة لا تعدلها كلمة في كتاب الله ولا في غيره بعد كلمة “لا إله إلا الله”.
إن الإنسان يحب ما يحب لأنه يجلب إليه لذة أو منفعة، فيبذل ما في وسعه لاكتسابه وتحصيله حتى يقر قراره ويسكن فؤاده ويطمئن باله.
فإن لم يتمكن من الحصول عليه كان في تعب وأذى، وإن حصل عليه ثم اضطر إلى فراقه ازداد قلقا واضطرابا، فما حب الآفلين إلا عبارة عن إرهاق وعناء، وعذاب شقاء، ولم تعلم الدنيا منذ نشأتها محبا أو عاشقا إلا مفتونا أو مجنونا أو محروما شقيا:
وكلُّ مُصيباتِ الزمانِ وَجَدْتُها
سوى فُرقَةِ الأحبابِ هينةَ الخطْبِ
وقلتُ لقلبي حينَ لجَّ به الهَوَى
أفِقْ لا أقـرَّ اللهُ عيْنَك من قَلـْبِ
وانظروا إلى قول قيس بن الملوح ذاك المجنون سيد العاشقين العرب والعجم، وأمير المتيمين في الشرق والغرب:
لو كانَ لي قلبان لعشت بواحدٍ
وأفردتُ قلباً في هواكَ يُعذَّبُ
لكنَّ لي قلباً تّمَلكَهُ الهَوى
لا العَيشُ يحلُو لَهُ ولا الموتُ يَقْرَبُ
كَعُصفُورةٍ في كفِّ طفلٍ يُهِينُها
تُعَانِي عَذابَ المَوتِ والطِفلُ يلعبُ
فلا الطفل ذو عقلٍ يرِقُّ لِحالِها
ولا الطّيرُ مَطلُوقُ الجنَاحَينِ فيذهبُ
وقال آخر:
عجبت لمسراها وأنى تخلصت
إلي وباب السجن دوني مغلق
ألمت فحيت ثم قامت فودعت
فلما تولت كادت النفس تزهق
وقال آخر:
و قد زعموا أنّ المحبّ إذا دنا
يَملُّ وَأنَّ النَّأْيَ يَشْفِي مِنَ الْوَجْدِ
بَكُلٍّ تدَاوَيْنَا فلمْ يُشْفَ ما بِنَا
على أنَّ قُرْبَ الدَّارِ خَيْرٌ مِنَ الْبُعْدِ
والأشعار في هذا المعنى كثيرة، واقرأوا دواوين عنترة بن شداد، وكثير عزة، وجميل بن معمر، واقرأوا ما قاله شعراء العجم، فالعرب والعجم كلهم مجمعون على ما افتتحت المقال به أن حب المخلوقين عذاب وشقاء.
ولا يستثنى من ذلك إلا حب رب العالمين، فمن أحبه أجابه بحب أشد، ومن أحبه وأخلص في حبه لم يفارقه ولم يبعده، بل قربه إليه وزاده نعمة وفضلا، ونجاه من كل شقاء وبلاء.
وكان إبراهيم أوتي رشدا، فتعلم بفطرته وعقله ما لم يتعلمه العاشقون والمتيمون بتجاربهم الطويلة، فأنكر أن يحب ما سيؤول أمره إلى أفول وزوال، وقال بكل قناعة: “لا أحب الآفلين”.
ولم ينطق بهذه الجملة السلبية إلا وطهر قلبه وزكت نفسه وسما عقله، فاهتدى إلى بغيته وقال: “إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين”.
فالعاقل من حرر نفسه من حب الآفلين كافرا بهم ومنكرا لهم أشد الإنكار، ثم لم يطمئن إلا أن يتوجه إلى مولاه منيبا إليه حنيفا.
اللهم اجعلنا من أتباع خليلك عليه الصلاة والسلام.