بمناسبة «اليوم العالمي للغة العربية»، يجدر بنا أن ننوه بجهود صاحب ومؤسس الفكرة النهضوية الحضارية الحلم؛ وأعني بها: «تعريب الحوسبة وتكنولوجيا المعلومات، ومنظومتها من شبكة المعلومات، والذكاء الاصطناعي.. وإلى آخره.»،
إنه الدكتور أحمد سعيد سلام رائد تعريب الحوسبة.
——————
وفيما يلي يقص الرجل قصته بقلمه، في مقالة نشرها على حسابه الفيسبوكي بعنوان:
(من أسراري العلمية والعملية):
———————-
في عام ١٩٨٩ اشتريت أول جهاز كمبيوتر شخصي وكلفنا الجهاز مبلغا طائلا، وكنت أشعر بالعجز بداية ثم بالمهانة لاحقاً لأن الجهاز لا يعمل باللغة العربية.
حينها كان لدي ما يقرب من ٢٠٠٠ كتاب كلهم باللغة العربية وكنت أتشوق ليوم أستطيع فيه تشغيل الحاسب بنظام عربي وتحميل كل هذا الكتب على الحاسب.
في هذا الوقت وكنت بالجامعة وضعت لنفسي هدفا لم أشرك فيه أحد أن أجعل الكمبيوتر يعمل بالعربي. ومن هنا بدأت رحلة استمرت عشرة سنوات كاملة في تعريب الأجهزة والأنظمة.
وحين صدرت نوافذ ميكروسوفت تمكنت من الحصول عليها عام ١٩٩١ ووجدتها لا تعمل بالعربي وعاهدت نفسي أن أجعلها تعمل بالعربي وقد فعلت ذلك بنسخة أولية في عام ١٩٩٢ بدأتها مع دكتور صالح الشهابي في الإسكندرية ثم عملت عليها بمفردي لثلاثة أشهر.
وفي مايو من عام ١٩٩٣ التحقت بشركة صخر وظللت هناك حتى مارس ١٩٩٩.. وكنت حينها الوحيد الذي استطاع تفكيك نظام ميكروسوفت ويندوز ٩٥ هندسياً بكامله وإعادة تركيبه بصورة جديدة ومتكاملة.. وقمت بقيادة العمل في قسم التعريب لستة سنوات متكاملة وتطوير تقنيات خاصة للتحكم بكل وظائفها وكل وسائل تواصلها مع المستخدم.
وحين بدأت ميكروسوفت في إصدار نظام النوافذ بالعديد من اللغات الأوروبية وبالعبرية وبلا دعم للعربي في ١٩٩٥ تعهدت بأن أرغمهم على دمج دعم اللغة العربية في الاصدار الأول الأصلي بلا انتظار لنسخ تصدر لاحقاً.. وقد حدث هذا في ١٩٩٨.
وحين صدرت نسخة مبدئية نوافذ ميكروسوفت ٩٥ في سبتمبر ١٩٩٤ ووفقني اللي وأنجزت تعريباً كاملاً لها بدمج تعريبنا القديم على الاصدار الجديد رغم الاختلافات الهيكلية في بناء نظام التشغيل.
وحين صدرت نسخة من متصفح الإنترنت نتسكيب نافيجاتور في نهاية عام ١٩٩٥ وفقني الله في تعريب نسخة مبدئية وتعهدت للشركة بأن أصدر تعريباً كاملاً وفعلت هذا بحول الله وقوته في منتصف عام ١٩٩٦ وكان يعمل تحتي فريق شكلته ودربته مكون من ٣٤ مهندس ومطور ومبرمج ومدقق.
وحين صدر متصفح ميكروسوفت للأنترنت بلغات عدة وبدون دعم للغة العربية قررت بأن أجعله يدعم العربية وقد فعلت هذا بفضل الله تعالى في نهاية عام ١٩٩٦ أيضاً.
وفي الفترة من ١٩٩٣ حتى ١٩٩٨ كانت نوافذ صخر العربية هي المهيمنة على السوق العربي.. وحصلنا على العديد من الجوائز الدولية.. وكانت مايكروسوفت عاجزة عن اللحاق بنا فنياً وتقنياً على مستوى التقنيات العربية.
وفي الفترة من ١٩٩٦ حتى ١٩٩٩ كان متصفح السندباد هو المتصفح العربي الأول وكان متاح إقليمياً وعالمياً على إيه نسخة من نوافذ ميكروسوفت وكان يعمل بالعربية بصورة كاملة على مستوى التصفح والبريد الالكتروني والاخبار والمحادثة.. وكذلك قمنا بدمج نسخ من المدقق الاملائي والقاموس والاملاء الصوتي ونسخة مبدئية من الترجمة متعددة اللغات وقراءة النصوص آلياً. وسبقنا العالم أجمع بكل هذه الحزمة من التقنيات المدمجة داخل حزمة برامج الانترنت.
وفي عام ١٩٩٧ اصدرت نسخة خاصة لم يطلع عليها إلا أفراداً بالعدد وتشمل حماية متكاملة من المتصفح لخادمات الانترنت لتأمين الاتصالات.. وقمت بنفسي بعرض الفكرة والنموذج التجريبي على جهاز المخابرات العامة المصرية.. وكانت الخطط أن يتم إنتاج نسخة يتم استخدامها بين وزراء الخارجية العرب والسفارات العربية بحيث تكون الاتصالات محمية ومؤمّنة. كما كان هناك مراقبة وتحكم كامل في المحتوى نصاً وصورة على مستوى التصفح والبريد.
وحصلنا على كل الجوائز المتعلقة بالإنترنت والتصفح والتقنيات العربية وألقيت كلمة شركة صخر في الاحتفال النهائي لمؤتمر جيتكس في عام ١٩٩٩٧ بالنيابة عن رئيس الشركة في حضور مجلس الادارة وكل الشركات الدولية والعالمية وقد حصدنا كل الجوائز بلا أية استثناء أمام ميكروسوفت.. وقلت في الكلمة نصاً بدون تحريف: لقد جعلنا هدفنا صخر تبني انترنت العرب.. وها نحن نحقق هدفنا.. فشكرنا للمطور العربي الذي أثبت جدارته على المنافسة الدولية وشكراً للمستخدم العربي الذي اولانا ثقته.. والحمد لله على توفيقه.. والسلام عليكم ورحمه الله.
وهناك تفاصيل كثيرة أحتاج لتدوينها ونشرها ولكن سأقول للشباب كلمات قليلة أخرى علها تنفعهم:
لم يكن لدي يومها أي إمكانات ولا كان يوجد حولي خبرات ولم يكن هناك حافز خارجي، لذا كان على أن أبدأ بإيماني بذاتي وبقدراتي وكان عليّ أن أخلص النية لله وحده وكان عليّ أن أعمل وأتعلم بلا توقف وأدرب أكثر من ٣٠ مهندس يعمل معي بصورة يومية.
وقد كنت أعمل بالمتوسط ١٦ ساعة باليوم وكنت أبيت بمقر عملي صخر بالمنطقة الحرة أسفل مكتبي، وكان يمر على الثلاث ليال بدون أن أستحم، فقط أغسل جسدي بالماء والصابون وأعود للمكتب ولم يكن زملائي يعلمون أني أبيت بمكتبي فقط كانوا يروني بالصباح على مكتبي.
وعينت مهندسين بلا خبرة من أغلب جامعات مصر من جامعة الأسكندرية للمنوفية للزقازيق لمنوف للجامعة الأمريكية لجامعة القاهرة لجامعة عين شمس وصبرت على تدريبهم وكنت لهم أخا كبيرا حتى من كانوا أكبر مني سنا.
وكنت لا أتوقف عن القراءة والتعلم والعمل، ولم أشغل نفسي إطلاقي بغير هدفي.
وكان مرتبي ضئيلا ولم أمتلك سيارة ولا نظارة شمس ولا ساعة غالية وكان لدي حذاء وحيدا وكنت أعطي ثلث مرتبي ما بين تبرعا للبوسنة ودعما لأهلي. لقد كنت بالأساس أعيش لحلمي.
وحين ذهبت لزيارة ميكروسوفت في منتصف ١٩٩٩ وشرحت لهم إمكانياتي لم يتخيلوا أني استطعت بميزانية ضئيلة وبعشرة مهندسين مطوري برامج إنتاج نظام تشغيل عربي تفوق عليهم رغم استثماراتهم الهائلة.
وقد حوربت بلا هوادة من بعض زملائي ومدرائي في مصر بدوافع تتفاوت ما بين الحقد والحسد أو الجهل والغضب ولكني لم أتوقف، ولم أضيع جهدي في محاربة الآخرين.. كنت أعلم أنها أوقات معدودة وفرصة تاريخيه لبناء شيء قد يشكل مستقبل العالم العربي.. وكان هدفي واضحا، كنت أريد تعريب أنظمة تشغيل الحاسبات الشخصية والإنترنت وقد فعلت بحول الله وقوته.
وقد حاول البعض إخراجي من صخر في منتصف ١٩٩٧ ولم أخرج؛ وتقدمت بالاستقالة المسببة مرتين بسبب المؤامرات والإشاعات الكاذبة ثم تراجعت حرصا على استكمال ما بدأت فقد كان تنفيذ حلم التعريب لم يصل لنهايته،
ولم أترك صخر إلا حين تيقنت أن ميكروسوفت قررت تدعيم اللغة العربية بالكامل في كافة منتجاتها في عام ١٩٩٨.
وشاء الله بقدرته أن يكون خروجي ملحميا وكاشفا عن الحاقدين وخبثهم وطمعهم وفساد نفوسهم. وخرجت ورأسي عالية في السماء وكان آخر من تلقاني رئيس الشركة والذي ما أن رآني أمامه حتى مد يده وحياني مهللا حيا الله أهل الأسكندرية.
وكم كانت صخر بوتقة لإبداع الشباب المصري وكم كان التأثير هائلا.
والله تعالى مالك الملك وحده يرفع ويخفض يعز ويذل. وترنحت صخر بعد خروجي فصارت كصقر أصيب أحد جناحية بالخيانة الداخلية فعجز عن الطيران ومشى متعرجا على الأرض حتى صار هدفا لضباع الأرض.
ولم يكن هدفي المال، ولا أن أتحكم في النظم العربية أو المحتوى العربي، كما كانت تريد صخر، فقط أردت أن أزيل الحاجز التقني الذي يمنع العرب من استخدام الكمبيوتر والأنترنت وقد فعلت بتوفيق الله تعالى ومدده وبدعم الفريق الذي عمل معي وآمن بي ولولا جهدهم وعملهم الشاق ما استطعت تحقيق كل هذه الانجازات.
وكل عربي يستعمل العربية اليوم على نوافذ ميكروسوفت وعلى الأنترنت عليه أن يتذكر أن دعم اللغة جاء بعد عمل شاق وتنافس حاد ومهمة كانت أشبه بالمستحيلة.
وأرجو أن تفخروا بما قدمته وفريقي لأمتنا ولوطننا في ذلك الحين، وأرجو أن تتذكروا أن الأحلام المستحيلة عند الكثيرين تصبح مهمات لازمة التنفيذ عند آخرين.
ولم أحاول يوما أن أبيع حلمي أو أتاجر فيه أو أقايض عليه، ولم أطمع بشهرة ولا بثروة، فقد كان الحلم أثمن وأكبر من أن تحده شهوة أو شهرة دنيوية.
وفي الطريق تعرضت لمتاعب صحية جمة.. وفقدت البصر ثم استعدت بعضه.. وأخرجوا عني الإشاعات حتى في مرضي.. فاتهموني بالتمارض طلباً للمال.. ويعلم الله أن ما عرض على قبلها بعامين من الهجرة لأمريكا كان عشرين ضعفاً في المال ثم تلقيت عرضاً قبلها بسنة وكان أربعين ضعفاً في المرتب ولكن قررت أن استمر خلف حلمي. وأحمد الله على هذا فحتماً لم أجمع المال وقتها ولكن الله سخرني فيما ينفع الناس.
ثم هاجرت وكافحت في أمريكا وكان طعم الحياة شديد المرار بسبب الظلم الهائل الذي تعرضت له من بني وطني وبني قومي.. ولولا فضل الله وتثبيته لهلكت من الحزن.
ودارت بي الإيام لأصبح من أكثر المخترعين غزارة في الانتاج والتأثير في مجال تخصصي في مجال أمن نظم المعلومات.. ولم يكن الطريق ممهداً بل كان شاقاً ووعراً.. وفي خلاله عرفت بعضاً من ألمع عقول العالم وأكثرها إبداعاً.. وصارت لي شبكة خاصة ومؤثرة من المعارف العلمية والصناعية.
وتقلدت أكبر المناصب التنفيذية.. وأكرمني الله بالعفو والصفح في داخلي فهدأت نفسي.
ولا زلت أعاني من أثار صحية مؤلمة بسبب ما تعرضت له في مصر وعالمنا العربي من ظلم وجهالة وتدبير سوء منذ خمسة وعشرين عاماً.. وأحمد الله أن كثير ممن عاداني يومها تغيرت نفسه نحوي وطلب بعضهم مني العفو والصفح.. فمات من مات وبقي من بقي.. ولا أرجو من الله غير عفوه وهدايته للجميع. فالحياة قصيرة وحساب الله عسير وما عند الله خير وأبقى.
وأحتسب عند الله ما قدمت وما عانيت.. وأحمده على التوفيق.. واستغفره على الخطأ والزلل.
ولا أرجو منفعة من الخلق.. خاصة وقد علمتني الحياة أن كثيراً من علية الخلق في بلادنا هم عن الصدق والعدل والوفاء غائبون وممتنعون.
وأشير بالوفاء والعرفان إلي د. نبيل علي رحمه الله أول من أدرك في معالم الموهبة والنبوغ في مجال البرمجيات؛ ود. عبد الوهاب المسيري رحمه الله الذي قال لي أن ما أعمل عليه أحد أخطر المشاريع النهضوية العربية الذاتية؛ وكذلك المشير محمد عبد الغني الجمسي رحمه الله الذي قال لي يوما وعيناه دامعتان أن بلادنا خصبة بالمواهب أمثالي وعصية على الانكسار.
ووفائي ومحبتي لكل أهلي ولكل الإخوان المحبين وكل من دعمني ودعا لي وكثير ما هم.
وأرجو من الشباب أن يعلم أنه يستطيع بناء أي شيء يريده طالما امتلك العقل والإرادة والعلم وقبلهم الإيمان.
وكنت أقول لنفسي حينها لو أردت الهبوط على القمر لفعلت، ولو أردت الطيران فوق الأرض لفعلت.
وقد سخر مني الكثيرون، وحاول أخرون تحطيمي، وسعى البعض بأن يؤذيني ويطعني في ذاتي وفي علمي وفي عقلي. ولكني لم أهتم، وصبرت وصبرت وصبرت، فقط كنت أنظر لحلمي وأجد هذا يكفي لدفعي وثباتي.
أيها الشباب لا تستمعوا لمن حولكم ولا تهتموا بمن يعطلكم وأتبعوا أحلامكم وأرفعوا هممكم وتمسكوا بإيمانكم وابنوا أوطانكم.
أيها الشباب لا تحترموا القيود المصطنعة ولا تتبعوا الأفكار البالية ولا تنهزموا ولا تنكسروا واصمدوا خلف أهدافكم واستعملوا عقولكم واستشيروا الخبراء وتعلموا ممن كان قبلكم.
وذاك فضل الله على عبده في الأول وفي الآخر أن سخرني لما ينفع الناس ولما ينفع أهلي ووطني وبني جلدتي”.
————-
وفقكم الله وحفظكم ورعاكم.
وأسأل الله تعالى أن تتحرر فلسطين المحتلة قريباً وأن نصلي معاً في القدس الشريف بعد التحرير.
أحمد سعيد سلام
كوبرتينو
كاليفورنيا
١٧ ديسمبر ٢٠١٥
١٧ ديسمبر ٢٠١٧
١٨ ديسمبر ٢٠٢٣